من يصلح صورة العسكر! السودانية , اخبار السودان
من يصلح صورة العسكر!
أمل محمد الحسن
بعد انطلاقة ورشة الإصلاح الأمني والعسكري انصب حديث الناس حول السنوات التي يمكن أن يوافق عليها البرهان لدمج الدعم السريع، وعدم مشاركة بعض أطراف الحركات حاملة السلاح، لكن في ذات الوقت كنت أفكر في أمر بعيد عن القوانين أو الدمج، كنت أفكر في الصورة!!!
صورة من يرتدي بزة عسكرية، مكانته ورمزيته، وكيف ينظر إليه الناس، وكيف تحول إلى (الآخر)!
ذلك الشخص الذي يقف في مواجهة الشعب، يحمل سلاحاً أو (أوبلان)، غضباً مكبوتاً، حنقاً أو لا مبالاة، تجعله يضغط على الزناد ويقتل طفلاً يقف قبالته دون تردد! وكل ما كان يحمله ذلك الثائر حنجرة مملوؤة بالهتاف، جسد هزيل، وأمنيات وأحلام بغدٍ أفضل، للجميع، بمن فيهم حامل السلاح!
تلك الصورة التي جعلت أطفالاً في مدرسة، في فيديو شهير انتشر قبل فترة في الوسائط الاجتماعية، يهتفون ضد والد زميلهم الذي جاء ليعيد ابنه من المدرسة، زميلهم، وهو يرتدي بزة عسكرية!
بدأت أجول بذاكرتي بحثاً عما قامت وتقوم به الأجهزة النظامية في حياتنا، الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع، منذ أيام البروبقاندا العظيمة التي كان يقوم بها نظام المؤتمر الوطني وهو يسحب الشباب للقتال وكيف كان يتراص الشعب السوداني قبالة التلفاز مشاهداً وفياً لبرامج “ساحات الفداء”!
غسلوا الأدمغة تجاه حرب الجنوب، تلك التي ارتدت ثوب الحرب الدينية، الإسلام مقابل الكفر! حصدت الشباب والأموال وانتهت بفصل جزء كامل من أرض الوطن! لأننا لم نتمكن من إدارة التنوع وقبول الاختلاف!
كانت الحرب قبل وسائل التواصل الاجتماعية، فيسبوك أو واتساب، كان صوتاً واحداً ينقل صورة يريدها النظام الإسلاموي أن تترسخ في عقول الناس، ونجح!
ثم تحت تعتيم كبير في مطلع الألفينات دارت حروباً أخرى ضد الأهالي في دارفور، كان العالم يسمع بها، ويتسلل نجوم هوليوود من آخر الدنيا لزيارتها ونحن نتعامل معها كأنها حرب تدور في كون آخر بعيد عنا!
الفظائع التي حدثت هناك؛ من قتل وحرق واغتصاب وتشريد، صبغت حياة أهلنا هناك بالسواد وتربت أجيال كاملة في معسكرات النزوح، ومازال الآلاف يعيشون فيها، ممن لم تتملكهم الشجاعة للهجرة أو الموت في سبيلها!
أذكر أني قرأت قصة كتبتها طبيبة من بنات دارفور من ذكريات طفولتها، في موقع للتواصل الاجتماعي تويتر، حكت كيف نجت مع قلة قليلة، وكيف كانوا يوارون الثرى عشرات القتلى من قريتها والقرى المحيطة، وهي لا تفهم لماذا كل هذا الموت، وصورة الحزن المقيم في وجه أمها لا يفارق خيالها.
من فعل كل تلك الجرائم، ومن غطى عليها ومن يمنع أن يتحمل الفاعلين الرئيسيين من البشير وأعوانه مسؤولية ما جنت اياديهم؟
ثم التقيت في إحدى الورش خارج السودان، بزملاء إعلاميين من كاودا، أولئك الذين يسهل علينا أن نلتقيهم في دولة أخرى لأننا لا نملك الذهاب إليهم كما يفعل الناس في كل الدنيا داخل بلادهم!
تمزق قلبي وهو يحكي عن حياتهم داخل الخنادق، كيف لا يعرف النوم طريقاً لعيون صغاره والفزع الذي يلم بهم كلما سمعوا هدير طائرة!
وقصص الدانات التي حصدت أرواح أهله وأصدقائه، غير تلك التي زارت منزله وحولته لخراب!
من قاد تلك الطائرات التي قصفت المدنيين، قتلتهم وشردتهم؟
ثم عادت بي الذاكرة لأحداث فض الاعتصام، على بعد أقدام من مقر الجيش بقلب العاصمة، كيف حصدت الارواح، وكيف ألقيت في النيل وكم فقيد يدور أهله بلا هوادة يبحثون عنه وطعم الحياة فارق افواههم وقلوبهم خواء!!
تذكرت حادثة الشهيد الأستاذ أحمد الخير، قصة كلما مرت بخاطري شقت قلبي إلى نصفين، أي قسوة حملتها قلوب أولئك الناس، بأي حق هتكوا، وقتلوا، ولأجل ماذا ومن؟
أما حوادث الاعتقالات من جهاز الأمن وأهوال بيوت الأشباح والتعذيب والقسوة المجردة من رائحة الضمير والنخوة والرجولة، عالم آخر، من يحمل كل ذلك الوزر، ومازالت قدماه تحملانه ووجهه يعرف الضحك والابتسام؟
ثم القمع المفرط في مواكب رفض الانقلاب العسكري، يخرج أفراد الشرطة وهم يصرخون على الثوار في مشهد يشبه جيوش التتار! قتل وضرب وتعذيب!
كتبت قصص بعض الشهداء، كل قصة كنت أسمعها تهز صلابة أشجع الشجعان، كانت قصصاً قليلة من ضمن مئات القصص لأسر وأمهات لم التقيهن، قصص لو جلس قادة الشرطة والجيش والأمن للاستماع إليها لخروا صعقين بما نالت أياديهم من دماء ووجع مقيم بقلوب الأمهات والأخوات والآباء وحتى الأجداد!
كنت التقيت ببعض المصابين من أحداث كرينك وهي حدثت بعد الانقلاب العسكري، حصدت المئات من القتلى من أهل غرب دارفور، وتم بعد أيام من الضرب إجلاء المصابين للخرطوم، منهم من تم تقطيع أطرافه بسبب تعفّن الجروح، لأن من قتلوهم منعوهم أيضاً من العلاج، عباراتهم التي حملت كل غضب الدنيا لا تزال ترن في أذني: الجيش انسحب وتركنا نواجه أسلحة الجنجويد ونحن عزل!
ثم قفزت إلى خاطري قصة أخرى من التي كتبت عنها في صحيفتنا، الشهيد مدثر كمال، الشاب الذي تم إلقاء القبض عليه وإيداعه في سجن بالخرطوم، ثم خرج جثة هامدة بسبب التعذيب والضرب!
والأقسى أن الشرطة قالت لأبيه إنه مات بسبب جرعة زائدة من المخدر، وذهبوا لأبعد من ذلك بتأخير نتيجة التشريح مطالبين بفحص السموم في جسده ليثبتوا نظريتهم ويتملصوا من تحمل المسؤولية.
شعرت وأنا أتابع ما يدور في قاعة الصداقة بأن ما يحدث فيها لا علاقة بينه وبين الشارع، وما يحمل في صدره من كمد وحرقة وخوف وغضب!
ما قلته ليس سوى مقتطفات مجتزأة وركيكة، كل قصة تحتاج لمجلدات وكتب! وكل تلك الأحزان لن يملك قلب إنسان وحيد أن يحملها!
على القوى النظامية جميعها بلا استثناء؛ أن تعرف أن هناك خندقاً عميقاً محفور بينها وبين الشعب السوداني، لانحرافهم عن دورهم الذي يجب أن يقوموا به في الوطن.
إن لم يعترفوا ابتداءً بهذا الخندق، لن يتمكنوا من ردمه وإصلاح صورتهم وعلاقتهم مع المواطنين، ومع الأسف ما ذهب إليه قادة الشرطة في ورشة الإصلاح الأمني والعسكري لا يبشر بخير!
ويبقى الأمل في أن تأتي حكومة مدنية، تعيد رتق العلاقات عبر قوانين وتشريعات وإزالة تمكين الأجهزة النظامية وتطوير العقيدة والايديولوجيا التي يستندون عليها، وقبل ذلك التمسك بالقانون وروحه، ليعلموا أنهم وجدوا بأمر الشعب ويصرف عليهم الشعب ودورهم خدمة المواطنين وليس الحكام!.
المصدر: صحيفة التغيير