بقلم: حسن أبو زينب عمر
تأملت وبكثير من الحزن والأسى شأني شأن الملايين في هذا البلد المنكوب قسوة الطبيعة وقوة تدميرها على سكان القرية الهادئة الوادعة (ترسين) النائمة في أحضان منخفضات جبل مرة الخضراء وقد تركتها الانجرافات الأرضية غير المسبوقة بأرضها وساكنيها أثرا بعد عين لا بسبب المواجهات الاثنية العمياء اللعينة ولكن بسبب الأمطار الموسمية الي هطلت بكميات قياسية ..الشروحات المرفقة لصور المأساة تشير الى أقارب الضحايا الذين قدرت أعدادهم بألف مواطن مع ممتلكاتهم من الحيوانات والذين ابتلعتهم الأرض أحياء في غمضة عين وانتباهتها وهم يبحثون عن الجثامين بطرق وأدوات تقليدية ويكشف الشرح أنها كانت منطقة زراعية لإنتاج الفواكه .. هنا عادت بي الذاكرة الى فترة العمل في جريدة الصحافة في السبعينات وكانت تلك أول المحطات ..فقد طلب منى رئيس التحرير الراحل محمد الحسن أحمد اجراء حوار مع مدير مكتب منظمة الزراعة والأغذية واختصارها (الفاو) .
(2)
ذهبت الى هناك وجلست أمام الرجل الأول للمنظمة في الخرطوم أسأله عن المساعدات التي تقدمها المنظمة للسودان ..قال لي نقدم الدراسات والمشورات ثم صمت برهة pause وأضاف ( لديكم منطقة اسمها جبل مرة تنتج نوعا من برتقال (أبوصرة) لم أشاهده طيلة حياتي من فرط مذاقه الحلو وقال وهو يقسم (والله انك لتقطع برتقالة ولكن بسبب العصير الذي تفرزه لا تستطيع إعادة أصابع يدك الى وضعها الطبيعي لما لصق فيها من سكر ولكن للأسف تستوردون البرتقال من بلدي لبنان بالعملة الصعبة ).
(3)
هذه منطقة مرتفعات ممطرة وتنتمي الى مناخ البحر الأبيض المتوسط وتنتج كل فواكه هذا المناخ من برتقال وتفاح وعنب وكمثرى وفراولة ولكن شأنها شأن كل موارد السودان المنسية المهملة التي جعلتنا كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ..كم تمنيت أن يكون هناك تكامل بين منتجات مرتفعات هذه الجبال ومنخفضات شواطئ البحر الأحمر يتم فيها تبادل المصالح حتى بالمقايضة نساهم بما لدينا من أملاح وأسماك مقابل موالح البحر الأبيض المتوسط التي ليست لها أسواق .
(4)
الذي يستوقف النظر هنا ان كلا المجتمعين الدولي ممثلا في الأمم المتحدة ووكالاتها والمجتمع الإقليمي ممثلا في الاتحاد الافريقي والجامعة العربية لم يخاطب الحكومات الثلاثة المتواجدة وهي حكومة ( جبل مرة) التي أعلنها عبد الواحد محمد نور ابان انشقاقه عام 2004 من الحركة الأصل العدل والمساواة التي يرأسها مني أركو مناوي وحكومة (الأمر الواقع) في بورتسودان وحكومة (تأسيس) التي تم الإعلان عنها مؤخرا وبدلا من ذلك بعثت بتعازيها الانسانية الى شعب السودان ولكن في الوقت الذي يتخذ فيه مناوي موقفا معتدلا وأكثر مرونة في التعامل مع حكومات السودان منها الانخراط مؤخرا في مسار جوبا والتحالف مع البرهان فان نور يرفض أي تعامل مع حكومات السودان مدنية كانت أم عسكرية حتى أطلقوا عليه MR NO فلازال متخندقا في مكانه وهو يطالب بمخاطبة جذور المشكلة أولا وليس الاتفاق على من يحكم السودان دون الكشف عن الجذور التي ينبغي مناقشتها .
(5)
لكن يحمد له أنه لم يعترف بحكومة (تأسيس) الهزلية التي تخطط لتفتيت السودان بعكس عبد العزيز الحلو الذي وجد ضالته ووضع (بئس ما وجد وبئس ما وضع) كل بيضه في سلة أسرة آل دقلو التي بدأت برنامج عملها بارتكاب فظاعات وجرائم يندى لها الجبين ضد اثنية (المساليت) التي أعتقد ان الحلو ينحدر منها . اذا كان خلاف نور وحكومات السودان يتجسد في التهميش فصدقوني انها أسطوانة مشروخة لا قيمة منها ولا اعراب لها لأن الحقيقة الماثلة أمامنا كضوء الشمس تؤكد أن السودان كله مهمش والذي نعيشه هو تحصيل حاصل لبلد يخرج من حرب ليدخل في حرب أكثر ضراوة والدليل هنا ان الخرطوم المتهمة بالتكويش على النعم والثروات تحتل الآن لقب (أقذر) عاصمة في العالم بعد أن انتزعت المركز الأول من (بانجي) عاصمة افريقيا الوسطى وذلك قبل سنوات من اشتعال الحرب العبثية.
(6)
أما الآن وقد تحولت منازلها ومقراتها وبنيتها التحتية وكل مقدراتها كوما من التراب والحجارة لا تصلح الا مسكنا ينعق فوقه طائر(البوم) المشؤوم فهي خارج حسابات مجلة (فوربس) الامريكية التي وراء مثل هذه الإحصائيات والتحليلات .. الذي يلفت النظر هنا ان التنوع الاثني الذي هو أكثر القيم إيجابية في بلدان مثل البرازيل وماليزيا وسنغافورة وأستراليا التي تمكنت من الموائمة بين الابورجنيز (السكان الأصليين) وأعتي مجرمي إنجلترا (المطاريد) في بوتقة واحدة للانطلاق نحو آفاق الرفاهية والتقدم تحول في السودان الى نكبة ونقمة يسأل عنها أولا العسكر الذين قال عنهم الاديب والشاعر السوداني فضيلي جماع انهم يحرصون على الالتحاق بالكليات العسكرية للقيام بانقلابات على الحكومات المدنية.
(7)
الآن يتعالى صوت استغاثة من عبد الواحد محمد نور MR NO لكل الخيرين داخل وخارج السودان لمد يد العون لإخراج جثامين الضحايا من تحت ركام الصخور والطين ولكن الخوف كل الخوف انها ستسقط على آذان صماء deaf ears فالمجتمع الدولي غاطس للركب في أوكرانيا وعاجزعن انقاد أطفال غزة ..أما حكومة بورتسودان فرغم ان المهمة هي من صميم مسؤولياتها فان استغاثة جبل مرة ببورتسودان بها أشبه باستغاثة المستجير من الرمضاء بالنار فهي تعاني من توفير الاحتياجات في مستوياتها الدنيا للمواطن فضلا عن التخوف من أن تقع قوافل اغاثتها ان وجدت في يد ميليشيات الدعم السريع لكونها غنائم حرب .
(8)
نأتي هنا الى (ثالثة الأثافي) وهي ميليشيات آل دقلو التي أبدت استعدادها للمساعدة في أغاثة ضحايا جبل مرة .. لكن يبدو الاستعداد غريب اليد والوجه واللسان هنا كأنه استراحة محارب تفنن في تضييق العيش على الفاشر فميلشيات الدعم السريع لازالت تضرب عرض الحائط بكل نداءات المجتمع الدولي بفك طوق الحصار على المدينة الذي دخل الآن عامه الثاني كما تمنع السكان العزل من الخروج بعمل سد ترابي قدر طوله بثلاثين كيلومتر يحيط بالمدينة احاطة السوار بالمعصم في الوقت الذي تستهدف فيه الميليشيات المدينة ومواطنيها بقذائف الهاون والمدفعية الثقيلة. فاذا أعلن حميدتي الذي حولت قواته الفاشر الى قطعة من الجحيم جاهزيته للانخراط في عمل انساني لإخراج الجثامين من باطن ارض الجبل ومسح دموع أقارب الضحايا .. أوليس من حق أبو حنيفة مد رجليه ونيوتن بإخراج لسانه ؟.
المصدر: صحيفة الراكوبة