الواثق البرير


الواثق البرير

منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل، يعيش السودان واحدة من أحلك فصول تاريخه الحديث. لم تترك الحرب بيتًا إلا وأصابته مأساة: مدنٌ دُمّرت، عائلات تشردت، واقتصادٌ انهار، فيما تتقاذف القوى الإقليمية والدولية مقترحاتها حول مستقبل البلاد، وكأن مصير السودانيين مجرد بند في جدول تفاوض خارجي.
وفي خضم هذه المأساة، تتردد فرضية باتت شبه مقدّسة في بعض العواصم الإقليمية والدولية: “لا سلام في السودان من دون توحيد القوى المدنية.”
هذه الفرضية، وإن بدت منطقية في ظاهرها، تُخفي وراءها سوء فهم عميق لطبيعة المشهد المدني السوداني وتعقيداته البنيوية والتاريخية. فالقوى المدنية ليست كيانًا واحدًا يمكن جمعه بقرار أو تحت لافتة موحدة، بل هي طيف واسع ومتعدد من الأحزاب السياسية، ولجان المقاومة، والنقابات المهنية، والحركات الشبابية، والكيانات الإقليمية لكلٍّ منها قواعده وتجربته الخاصة مع التهميش والصراع.
إن الدعوة إلى توحيدٍ كاملٍ بين هذه القوى تتجاهل هذا التنوع الطبيعي، وتخاطر بفرض إجماعٍ مصطنع يفرغ الفعل المدني من جوهره التعددي. فالديمقراطية لا تُبنى على التطابق، بل على إدارة الاختلاف وتحويله إلى قوة خلاقة. والتحدي الحقيقي ليس في دمج الجميع تحت راية واحدة، بل في ابتكار أطر تنسيق عملية تسمح بتوحيد الموقف حول القضايا الجوهرية: وقف الحرب، العدالة الانتقالية، وبناء دولة المواطنة والديمقراطية.
أما إصرار بعض القوى الإقليمية على “وحدة مدنية” شكلية كشرطٍ مسبق للسلام، فهو في جوهره يخدم اعتباراتٍ جيوسياسية تخص تلك القوى أكثر مما يعكس الواقع السوداني. فهو يعلّق عملية السلام على هدفٍ شبه مستحيل، ويمنح القوى العسكرية مساحة إضافية لاستغلال الانقسامات المدنية لتبرير استمرار سيطرتها.
والأدهى من ذلك أن هذه القوى، التي ترفع شعار دعم التحول المدني، لم تُظهر حتى الآن قدرة حقيقية أو إرادة صادقة لمساندة القوى المدنية الديمقراطية، إما لانحياز مصالحها نحو مراكز النفوذ العسكري، أو لعجزها عن فهم طبيعة التعدد المدني السوداني وإمكاناته الكامنة.
إن السودان لا يحتاج إلى وحدة تُفرض من الخارج، بل إلى تضامن وطني حرّ ينبع من الداخل، ويستمد شرعيته من معاناة الناس وإرادتهم في الخلاص
لقد أفرزت الحرب الراهنة ممارسات ومآسي إنسانية غير مسبوقة، جعلت المدنيين الضحية الأولى في كل مناطق البلاد.
إن هذه الممارسات لم تكن مجرد تجاوزات ميدانية، بل سياسات متعمدة لاستخدام القهر والجوع والفقر كسلاح سياسي وعسكري لإخضاع المجتمعات وكسر إرادة المواطنين. لقد تحولت حياة الناس إلى ورقة تفاوض في أيدي أمراء الحرب. فالإفقار والتجويع لم يكونا نتيجة عرضية، بل أداة استراتيجية لتفكيك المجتمع وتحويل المواطنين من أصحاب حقوق إلى ضحايا يعيشون على الإغاثة. وهذه الجرائم تمثل تهديدًا وجوديًا لبقاء الدولة والمجتمع، وتستوجب تحقيقًا شفافًا ومحاسبة عادلة لكل من تورط فيها.
ما هو المطلوب من القوى السياسية السودانية؟
إن المسؤولية الوطنية تقتضي اليوم أن تدرك القوى السياسية والمدنية أن لحظة الانقسام لم تعد رفاهية، وأن استمرار التباعد يمنح الحرب عمرًا أطول. المطلوب ليس وحدة شكلية جديدة، بل اتفاق على الأهداف الكبرى التي يمكن أن تشكّل قاعدة لبناء جبهة مدنية وطنية واسعة.
وتتمثل هذه الأهداف في:
• إيقاف الحرب فورًا دون شروط مسبقة، ورفض أي تسوية تُكافئ من حمل السلاح على حساب المدنيين.
• إعادة بناء الدولة السودانية على أسس المواطنة والعدالة والمساءلة، بعيدًا عن المحاصصات والانقلابات المتكررة.
• تبنّي مشروع وطني جامع يعيد الثقة بين المكونات المدنية ويُوحّد خطابها تجاه الداخل والخارج.
• تغليب مصلحة الوطن على مصالح الأحزاب، والانتقال من منطق المنافسة على السلطة إلى منطق المشاركة في إنقاذ البلاد.
لقد كان انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 نقطة الانحدار الكبرى في مسار الدولة السودانية، حين اختُطفت السلطة باسم الدين، وتم تمزيق النسيج الوطني عبر إشعال الحروب في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
كما استخدم المؤتمر الوطني الفساد والإفقار كسلاح سياسي لإخضاع المجتمع، وأفرغ مؤسسات الدولة من الكفاءات الوطنية، وكرّس ثقافة الولاء بدل الكفاءة، وزرع الفتن والعداوات بين المكونات الاجتماعية والقبلية ليضمن بقاءه في السلطة عبر سياسة “فرّق تسد”.
لقد حوّل النظام البلاد إلى ساحة انقسام دائم، حيث جرى تفكيك الروابط الوطنية الجامعة، واستبدالها بولاءات ضيقة غذّت الحروب، ومهّدت لانهيار الدولة ومؤسساتها
إن إشراك هذا الحزب أو واجهاته تحت أي مسمى جديد يعني مكافأة من دمّروا البلاد وشرعنوا الاستبداد، ويبعث برسالة خاطئة للسودانيين مفادها أن الجريمة يمكن أن تمر بلا حساب. المطلوب ليس الانتقام، بل تحقيق العدالة الانتقالية الحقيقية التي تضمن محاسبة كل من تلوثت يداه بالفساد أو الدماء، وإبعاد رموز النظام القديم من أي دور سياسي أو إداري في المرحلة الانتقالية، حتى لا تتكرر المأساة من جديد. فمن دون تفكيك منظومة التمكين ومحاربة الإفلات من العقاب، لن يتحقق سلام مستدام ولا تحول ديمقراطي حقيقي.
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن أي عملية سياسية تسعى إلى إنهاء الحرب وبناء السلام العادل لا يمكن أن تُكتب لها المصداقية إذا فتحت الباب أمام رموز النظام البائد وحزب المؤتمر الوطني للمشاركة فيها. فهؤلاء هم من زرعوا بذور هذه الحرب عبر ثلاثة عقود من القمع والتمكين، وأقاموا دولةً قائمة على الإقصاء والفساد والعسكرة، وحوّلوا مؤسسات الدولة إلى أدوات حزبية لخدمة مشروعهم الإيديولوجي الضيق.
ما المطلوب من المجتمعين الدولي والإقليمي؟
على المجتمعين الدولي والإقليمي أن يدركا أن السلام في السودان لا يمكن هندسته من الخارج، بل يُبنى بدعم السودانيين في سعيهم نحو حل وطني حقيقي. إن الدور الدولي المطلوب ليس فرض الوصاية أو تصميم التسويات الجاهزة، بل تيسير الحوار السوداني السوداني، وضمان حماية المدنيين، ومحاسبة من ارتكبوا الجرائم بحق الشعب.
ينبغي تحويل الجهود الدولية من إدارة الأزمة إلى دعم مسار العدالة والسلام المستدام، من خلال:
• الضغط الجاد لوقف الحرب فورًا، ومنع تدفق السلاح وتمويل الأطراف المتحاربة.
• توحيد المواقف الإقليمية والدولية حول رؤية واضحة للسلام، بعيدًا عن تناقض الأجندات والمصالح الضيقة.
• توسيع المساعدات الإنسانية والإغاثية، وضمان وصولها المباشر للمدنيين دون تدخل الأطراف المتحاربة.
• دعم العملية السياسية المدنية، وتمكين القوى الديمقراطية من قيادة حوار وطني شامل دون وصاية أو تمييز.
• تعزيز آليات المساءلة الدولية ضد مرتكبي جرائم الحرب، ووضع حد لاستخدام الجوع والدمار كأدوات حرب.
• الامتناع عن أي دعم للاقتتال الأهلي او تبني وجه نظر طرفي الحرب.
إن أي دعم خارجي لا يحترم إرادة السودانيين أو يتجاوز قواهم المدنية الحقيقية سيُعيد إنتاج الأزمة. المطلوب من المجتمع الدولي أن يكون شريكًا في بناء السلام لا مهندسًا لتوازنات مؤقتة، وأن يرى في الشعب السوداني لا طرفًا ضعيفًا، بل شريكًا كامل الأهلية في تقرير مصيره وبناء مستقبله.
إن ما يجري في السودان اليوم ليس مجرد حرب على السلطة، بل حرب على فكرة الوطن ذاته. كلا الطرفين غارق في صراعٍ على النفوذ، بعيد عن أي مشروع وطني حقيقي. أما الخلاص، فلن يأتي إلا عبر مشروع مدني جامع، يُعيد تعريف معنى الدولة والمواطنة، ويستند إلى قيم العدالة والمساءلة وحق الحياة.
إن السلام الحقيقي لا يُفرض من الخارج، ولا يُشترى في أسواق الوساطات، بل يولد من إرادة السودانيين أنفسهم حين يقررون أن الحرب ليست قدرهم، وأن كرامة الإنسان أهم من كراسي الحكم.
فمن رحم الجوع والدمار يمكن أن تولد بداية جديدة، إذا ما توحدت الإرادة على بناء وطنٍ يتسع للجميع، وطنٍ لا يحكمه السلاح، بل العدالة، ولا تفرّقه الولاءات، بل تجمعه المواطنة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.