منعم سليمان

في خضمّ العاصفة التي تجتاح البلاد هذه الأيام، انشغل الناس بقرارات قائد الجيش الأخيرة، تلك التي طالت ضباطاً محسوبين على الحركة الإسلامية (كيزان) وأحالتهم إلى التقاعد.

بدا المشهد مثقلاً بالتأويلات والانقسامات؛ ففريق رأى فيها تحوّلاً لافتاً في نهج البرهان، وانفراجاً من قبضة الكيزان التي كبّلت البلاد عقوداً، فيما عدّها الرجرجة والعوام من أنصار الحيش طعنةً في خاصرة الجيش، إذ لا يصحّ بحسب زعمهم أن يُضحّى برجال خاضوا معارك ضارية دفاعاً عنه.

غير أنّ ثمة فريقاً ثالثاً آثر الصمت، ولم يظهر منه سوى همسٍ خافت وإشاعاتٍ مبعثرة عن اعتقالاتٍ وانقلاباتٍ وخزعبلات، قادمة *من جهازهم الأخطر ذاته*؛ إنّه الفريق الأخطر: الإسلاميون أنفسهم، صانعو الخيوط ومهندسو اللعبة من وراء ستار.

فالذي يغيب عن كثيرين، سهواً أو سذاجة، أنّ الإسلاميين لم يعودوا يعوّلون على الجيش كما في سالف الأيام. فقد انكشف الغطاء بعد الحرب أكثر، وأضحى معلوماً للداخل والخارج أنّ هذا الجيش تقوده قيادة “كيزانية” خالصة حتى النخاع. وهم يدركون أنّها قد أصبحت حقيقة راسخة لم تعد قابلة للإنكار أو التمويه. ومن ثمّ، فإن الضربة التي تبدو موجعة للجيش لا تعنيهم كثيراً، لأنهم احتاطوا لها قبل ثلاثةِ عقودٍ بخطة بديلة، أكثر خبثاً وأعمق رسوخاً: *إنّه جهاز الأمن والمخابرات*.

هذا الجهاز الأخطبوطي الحزبي العقائدي الخاص بالحركة الإسلامية، المكوَّن بالكامل من عناصرها؛ *كلّ ضابط فيه عضو منظم بالحركة، وكلّ عضو منظم بالحركة هو ضابط بالجهاز*. هو الذي يملك مفاتيح التسليح والتعبئة العسكرية والسياسية، وهو آلة الدعاية والمؤامرات والشيطنة، وهو الذي يمدّ خطوط التواصل مع إيران وتركيا وكل المناطق المظلمة البعيدة، بل هو الجهاز الذي يحكم قبضته على السفارات ويتحكم حالياً في كافة أجهزة سلطة بورتسودان داخلياً وخارجياً.

وليس الأمر ضرباً من المبالغة؛ فهذا الجهاز قد جُبل كله من عصب الحركة الإسلامية، *من مديره “مفضَّل” إلى نائبه “اللبيب”، حتى أصغر ضابط تحت لوائه*. إنّه الحصن الذي احتمى به الإسلاميون، قبل انكشاف أمر الجيش وبعده، *وهو سلاحهم السري في معركة العودة إلى السلطة*. فكيف يُخدع الناس بقرارات جزئية لا تمسّ هذا العصب الحي، ثم يقنعون أنفسهم أنّ باب التغيير قد انفتح؟ أيُّ سذاجة هذه!

إنّ كل كشفٍ يصدره البرهان لا يعدو أن يكون سحابة دخان، وذَرّ رمادٍ على الأعين لستر الحقيقة المرّة. *وما لم يُقتلع هذا الجهاز اقتلاعاً من جذوره، ويُهدَم حجراً حجراً، فإنّ السودان ماضٍ إلى غياهب أشدّ سواداً؛ وسيحكم الإسلاميون لا ثلاثين عاماً كما فعلوا من قبل، بل ثلاثة قرون، يبدّلون الوجوه والأقنعة بينما يبقى الجوهر ثابتاً، متربصاً، متحكّماً*.

فليتنبه السودانيون: ليست المعركة معركة كشوفات تقاعد ولا قوائم إبعاد، وإنّما هي معركة حياة أو فناء، أن يكون السودان أو لا يكون. *ولو بقي هذا الجهاز قائماً* فلن يعرف السودان أمناً ولا حرية. فلا تنخدعوا بقرارات شكلية، آنية الأثر، تُسوّق كأنّها انتصارات. *إنّها خدع جديدة تُضاف إلى سجلّ الخديعة الطويل*.

ولأولئك الذين يهللون لكل كشفٍ يصدر عن البرهان، وينساقون وراء نشوةٍ عابرة، نقول: هونوا على أنفسكم، ولا تغرنّكم القرارات الصغيرة. *فإن لم تروا بأعينكم قرارات جذرية تمسّ هذا الجهاز وتكسره من رأسه إلى أساسه*، فاعلموا أنكم إنما تُخدَعون، ويُساق إليكم الوهم كما سِيق بعد الثورة.

الخلاصة أنّ الطريق إلى الخلاص واحد لا ثاني له: *فإمّا* أن يُزال هذا الجهاز الأمني الخطير الذي شيّدته الحركة الإسلامية ليكون حصنها الأخير، *أو* يبقى السودان رهينةً لدوامة لا تنتهي من الاستبداد، حيث تتبدّل الوجوه لكن يبقى السلطان لـ *”الإخوان”*!

*حفظ الله السودان من كيد الكيزان، وخِداعِ البرهان، وسوءَ الطُّغيان.*

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.