من واقع تجربتنا السيّاسِية وتاريخ الصرّاع هذا هو الطريق للحل المُستدام
الجميّع ظلّ يعمل ويقول بضرورة إيقاف الحرب في السُودان ، ويضع تصورات لما بعد عملية وقفها ، وقوي سياسِية وتحالفات وفاعِلين ظلت تتحدث عن رؤية وطرح وفق عملية سياسِية ينتج عنه سُلطة مدنية لا وجود لطرفي الحرب أو العسكر بها ، وكذلك يذهب آخرون لحل المليشيات وتوحيد الجيوش ، وعلي رأسها بالطبع مليشيا الدعم السريع ، ومليشيات الإسلاميين وغيرها ، ويتحدثون عن عودة للمسار الديمُقراطي وفقاً لأهداف ثورة ديسمبر وأهدافها ، كُل هذه القوي السياسِية من أحزاب وكيانات وقوي مدنية وحركات وفاعلِين ظلوا يقولون بهذا ، وظل هذا الحديث مُتكرراً ، وإمعاناً في تكملته يعتقدون أن الطريق إليه هو عملية سياسِية شاملة لاتستثني إلا المؤتمر الوطني وواجهاته ، وآخر من قال بهذا هو المجموعة التي إلتقت في نيروبي في حوالي مُنتصف سبتمبر الحالي ، ثم تبعتها أحزاب ، كالحزب الشيّوعي السُوداني والمؤتمر السُوداني في تفاهماتهما مع حركة جيش تحرير السُودان “عبد الواحد محمد نور” ، والتي تشاركهم ذات الرؤية فيما يخص العملية السياسِية وأطرافها ، إذا تقريباً الأغلبية إن لم يكُن الجميّع أصبح يرفع صوته بهذا إقتناعاً منه بأنه هو الطريق السليم لوقف الحرب ومايتعلق به ، مع ضمان الذهاب لعملية سياسِية وفق ما ذكرته لإستعادة المسارين الديمُقراطي والثوري ، وتأسيس جديد لسُودان ديمُقراطي فدرالي مُوحد.
وغض النظر عن الإختلافات في طبيعة النظرة لدور المُجتمع الدولي في كُل هذا ، سواء في عملية وقف الحرب ومايليها ، إلا أن كثيرون من ذات هذه القوي يُعولون عليه ، خاصة فيما يتعلق بعملية الضغط علي طرفي الحرب سواء بعقوبات مُباشرة لكيانات أو أفراد ، وسواء بادوار الوساطة ومنابرها ، وصولاً لإنتاج فعال والمُساهمة في آليات مُراقبة وقف إطلاق النار والعمليات الإنسانية ومساراتها وغيرها ، ثم دورهم في إعادة البناء والإعمار للسُودان جراء ما دمرته وأحدثته الحرب من خراب.
وعلينا الآن إذا سلّمنا بأن كُل هذه القوي السياسِية قد إتفقت علي تلك الرؤية الموحدة ، والتي أساسها وقف الحرب ثم تسليم السُلطة للقوي المدنية وخروج العساكر من عملية الحُكم والسُلطة ، علينا طرح السؤال الهام في تقديري وهو (هل سيقبل طرفي الحرب سواء في الجيش أو مليشيا الدعم السريع في الخروج من السُلطة؟) ، وماهي الآليات والضمانات لذلك ؟؟ ، من المُهم الإجابة علي هذه الأسئلة.
من خلال ماتمّ ومنذ نجاح الثورة جُزئياً في إزاحة رأس النظام السابق للبشير والإسلاميين ، ظلّ الحال هو صرّاع ظاهر ومُستتر لأجل السُلطة والتواجد فيها من قِبل المكون العسكري ، سواء في الجيش أو الدعم السريع (أطراف الحرب الحالية) ، بدأت أولاً في فرض الشراكة مع القوي المدنية ، ثم إنقلبوا عليها وإختاروا طريق الإنفراد بها ، ثّم بعد وجود مقاومة شعبية وثورية ضدّهم ورفض ، حاولوا تعديل المسار الإنقلابي مع إبقاء سيطرة الدول والقوي الخارجية الداعمة لإنقلابهم والتي كانت قبل ذلك داعمة وبشدة للثورة المُضادة والإجهاز علي الثورة وكان أن تم عقد إتفاق مع رئيس الوزراء السابق حمدوك ، وأيضاً وجد هذا الإتفاق رفض ومُمانعة من القوي الشعبية والثورية والمدنية معاً ، ثُم تدخلت أطراف خارجية وبرغم إنكار المكون المدني في ذلك الوقت مُمثلاً في الحرية والتغيير وبعض حلفائه من قوي مدنية ومنظمات مُجتمع مدني أخري ومجموعات سياسِية وكحل للوضع المُتأزم مابعد الإنقلاب ، وكان هو اللجوء للتسوية السياسِية مع العسكر بطرفيه ووثيقة دستورية جديدة ، وتمثل هذا في الإتفاق الإطارئ ، الذي كان آخر محاولة منهم للعودة للمسار الديمُقراطي بحسب رؤيتهم وتوصيفهم ، وهو الذي وجد الدعم والسند الخارجي من الولايات المُتحدة والترويكا والمجموعات الغربية والأوروبية ، ولكن ولإختلاف المصالح في السيطرة علي السُلطة والحُكم والصراع عليها مابين مجموعتي الجيش والدعم السريع والفشل في الإتفاق بينهما حول بنود السيطرة والقيادة وعمليات الدمج ومدتها ، وبالتالي دخول الإسلاميين بقوة في جوهر هذا الصرّاع ورفضهم الذي تضاعف ، أولاً بإقصائهم وثانياً أن إنفاذ أي إتفاق حول سُلطة أو عمليّة سياسِية لايضمن وجودهم فيها سيقاوموه بكل الطرق ، فكان قرار الحرب هو مُحصلة لهذا الصرّاع رباعي الأبعاد مابين الجيش والدعم السريع والإسلاميين تحديداً وبعض منهم خاصة في المؤتمر الوطني والبُعد الرابع هو الجانب الإقليمي والدولي الداخل وبقوة في هذا الصرّاع لحماية نفوذه ومصالحه في السُودان ولقطع أي طريق نحو إنتقال حقيقي لديمُقراطية أو إستمرار لتغيير ثوري في السُودان ، فكان دعمها لهذه الحرب ولطرفيها.
إذاً فالحرب الحالية نتيجة لهذا الصرّاع القوي علي السُلطة والنفوذ والموارد في السُودان ، ولا يزال هذا الصرّاع قائماً ومًستمراً ، وجُندت له أموال ضخمة ومصادر تسليح وتمويل ، للفوز في هذا الصرّاع والخروج بمكاسب أساسها عسكري وصِدام بين الأطراف ، لخلق واقع جديد علي الأرض ، وهو إما عودة الكيزان والإسلاميين والسيطرة علي السُلطة وإن جُزئياً ، من خلال إنتصار الجيش والمجموعات العسكرية والمليشيات والحركات الموالية له وتقاتل معه ، أو النصر العسكري لمليشيا الدّعم السريع التي بحثت طوال هذا الصراع في وجود ظهير مدني وكان التقارب في المواقف والتحالف غير المُعلن مع الحرية والتغيير ثم تقدّم والغرض الأساسي منه هو التخلص من الإسلاميين في المؤتمر الوطني والجيش معاً ، وكما ظلت تردد المليشيا وقيادتها أنها من سُتعيّد الديمُقراطية وتقضي علي الكيزان والفلول وأنها مع الخروج من السُلطة ، وطبعاً الخروج من السُلطة هذه ودعم الديمُقراطية هو حديث للإستهلاك السياسِي ويكذبه الواقع ، وحتي تنال رضاء المجتمع الدولي والإقليمي والداعميّن لها داخله لتحقيق مصالِحهم من خلالها ، ويأتي علي رأس هذه المصالِح الخارجية السيطرة علي موارد السُودان وموقعه بتقسيّمه أو فرض واقع يُشابه ذلك يسهل لهم من خلاله السيّطرة عليه ، أي أن المصلحة من الحرب وإستمرارها ودعمّها بالنسبة لهم خاصة بعد فشل مسألة التسوية والإتفاق الإطارئ هو تحقيق هذه المكاسِب من وراء الحرب وطرفيها خاصة طرف مليشيا الدّعم السريع ، التي تحاول أن تكون الأداة في هذا الصرّاع مع الإحتفاظ في ذات الوقت بالسُلطة والنفوذ والمال ، والأهمّ ضمّان عدم المُلاحقة الجنائية الدولية جراء عديد الجرائم المؤثقة التي إرتكبتها ، وتشكل كروت ضغط يتم إستخدامها ضدها من القوي الدولية أو القوي الخارجية ذات المصلحة في السُودان.
كُل الحديث الحالي والخُطوات التي يتم محاولة تنفيذها لوقف الحرب ، لا يكون فيه ضمّانات لخروج طرفي الحرب من السُلطة وآليات ورؤية واضحة ومسارات لهذا ، سيكون حديثاً لايسنده منطق الصرّاع حول السُلطة ، ولا الواقع علي الأرض.
في رائي أن إغفال هذا ليس مُفيداً لعملية وقف الحرب نفسها حالياً بالتوصل لوقف لإطلاق النار ، ولا عند الدخول في أي عملية سياسِية سواء مُتزامنة مع وقف إطلاق النار أو تالية له ، وحتي إن توقف إطلاق النار وقبول أطرافها العسكريين بذلك ، يمكن أن تعود في أي لحظة بعدها طالما بذور الصرّاع موجودة وأصحاب قرار الحرب ، وعدم وجود الضمانات النافذة لإستدامة وقفها.
في تقديري أن أي ضمان حقيقي لوقف إطلاق النار وإستدامة ذلك يتطلب إتفاق سياسِي شامِل لايستثني أحداً بمن فيهم “المؤتمر الوطني” ولا أقول واجهاته ، وإنما أقصد تحدّيداً الإسلاميين أصحاب قرار الحرب سواء داخل الجيش أو خارجه ، الإتفاق السياسِي هو ليس لإقتسام السُلطة ، ولكن لوضع الطريق لسُودان خالي من الحروب والمليشيات وتعدد الجيوش وللتدوال السّلمي الديمُقراطي للسُلطة فيما بعد ، ولقبول الآخر المختلف والإعتراف به ، ولطي صفحة حالِكة من جميّع أخطاء الماضي السياسِية ومعالجة جذور الأزمات وليس التغطية عليها ، ولقطع الطريق أمام كُل الطامعيّن والعاملين لتقسيّم البلاد أو فرض رؤي دولية وتحويل بلادنا لمناطق إحتلال وتبعيّة.
هذا يتطلب أولاً إعتراف بعمّق الأزمة الحالية جراء هذه الحرب ، ويتطلب إعتراف بأن عمليات الإقصاء أو الإنتقام أو العدالة المُختلة لن تصنع وطناً مُستقراً ولن تحقق التغيير المنشود ، وتحتاج إلي حوار عقلاني بإرادة سُودانيّة خالصة بين جميّع الأطراف ، وهذا يتطلب شجاعة كبيرة ومسؤلية وإرادة سياسِية وطنية تُقدّم مصالح البلاد وشعبها ووحدتها ومستقبل الأحيال الحالية والقادمة فيه علي ما عداها ، وتوقف آلة الموت والدمار وتمضي نحو البناء والمُستقبل وشراؤه بدلاً عن الوقوف في الماضي وسجن وحبس السُودان وشعبه فيه.
نحتاج إلي التواثق والإتفاق علي عقد إجتماعي جديد ، وإنها كُل تشوهات الدولة السُودانية السابقة منذ إستقلال السُودان ، وأخطاء الحكومات والأنظمة المُتعاقبة ، والإعتراف بالمظالم التاريخية ، والتفريق بين أبناء وبنات الوطن الواحد علي أُسس دينية وثقافية وإثنية وعُنصرية ، وفي التهميش والتنمية غير المُتساوية ، وحتي في المُشاركة السياسِية ، والإعتراف بأخطائنا السياسِية جميّعها ونحتاج إلي إنهاء كافة أنواع الصرّاع المُسلح هذه والوصول للسّلام الشامل العادِل الذي يُخاطب جميّع المُشكلات من أساسها وجذورها ، والذهاب لدستور ديمُقراطي ومبادئ فوق دستورية مُتفق عليها ويوافق عليها الشعب السُوداني ويقرها ، لن تكون لدينا مُواطنة حقيقية إن لم نعترف جميّعاً ببعضنا البعض دون إقصاء أو بغضاء أو تمييز ، فقد جربنا كافة أنواع الصرّاع السيّاسي والعسكري فلم توصلنا لغير هذا الحال الذي فيه بلادنا حالياً والخطر الكبير علي البلاد حاضرها ومستقبلها ، الحوار الشامل ذو أُسس ومعايير ، والذي لايُقصي أحداً وفق الأجندة الوطنية ونبذ العُنف ومناهجه ، ولتأسيس جديد للسُودان ، وإنهاء لتعدد الجيوش والمليشيات ، والتدوال السِلمي الديمُقراطي للسُلطة وإرساء نظام عدالة حقيقية للمُخطئين ومرتكبي الجرائم في حق شعبنا وبلادنا ، ويضمن عدم تكرارها مُستقبلاً دون الوقوع في أخطاء التجارب السابقة وإعطاء بلادنا فرصة حقيقية للتعافي وجبر الضرر ومُصالحة وطنية تستوفي شروطها ، وليست فوق العدالة ولكنها تشتري مُستقبل أفضل خالي من جميّع أخطاء الماضي وسئياته ، كُل هذا يحتاج رغبة حقيقة للوصول لحلول مُستدامة تُنهي كافة الحروب وتعيد بلادنا لسكة الإستقرار والحريات والسّلام والديمُقراطية والوحدة والأمان والتنمية.
نعلم أن هذا الإتجاه قد يجد مُقاومة من البعض الذي لايري إلا تحت رجليه ومن بعض في الداخل والخارج الذي لايُريد وحدتنا ويزعجه ويضر بمصالحه إتفاقنا كسُودانيين ، ولكن إذا أستمرينا في مسألة الصرّاع والطرق المُغلقة للحلول ، والتناحر والتشاكس والإختلافات والإقصاء والإقصاء المُضاد وإحتكار الرأي والإستبداد فلن نتقدم كوطن أو نتوحد أو تقف الحرب في بلادنا ، وسنكون قد أعطيّنا أعداء بلادنا الفرصة للنيّل منا وعندها لن تنفعنا لاصراعاتنا و لا إصرّارنا علي العّناد وتكرار الأخطاء ولن ينفعنا الندّم.
فالحل في بلدك ذاتها..
المصدر: صحيفة الراكوبة