عاطف عبد الله
في المشهد السوداني الراهن، تبقى الحرب هي الخطر الوجودي الأكبر، والتهديد الحقيقي لوحدة السودان أرضاً وشعباً، وكل ما عداها من قضايا وخلافات ـ مهما كانت حدتها ـ يظل ثانوياً أمام نزيف الدم وانهيار الدولة. فالتناقضات بين “الجذري” و”الإطاري”، أو بين هذا التحالف المدني وذاك، لا ترقى إلى مستوى التناقض الجوهري الذي يحدد مصير الوطن نفسه. ومن هنا، يصبح تحديد العدو الحقيقي وتوجيه الجهد السياسي نحو إيقاف الحرب أولوية لا تحتمل التأجيل.
ولا شك أن الحزب الشيوعي السوداني يحمل هموم الشعب ويسعى لترسيخ قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، لكن الخط الذي يتبناه في اللحظة الراهنة قاده ـ عن قصد أو دون قصد ـ إلى التلاقي مع قوى مضادة للثورة ومن دعاة الحرب، وذلك عبر تعامله مع تناقضاته الثانوية على أنها تناقضات جوهرية، وإغفاله أن الصراع الأساسي اليوم هو صراع ضد الحرب نفسها، لا صراع داخل معسكر القوى المدنية. في ظل التعقيدات التي أفرزتها الحرب في السودان، برزت أنماط جديدة من الاصطفافات السياسية، بعضها كان متوقعاً، وبعضها الآخر مثيراً للاستغراب.
ومن بين الظواهر اللافتة، ذلك التقاطع الواضح ـ وربما التماهي ـ بين الحزب الشيوعي السوداني ومكونات الدولة العميقة المرتبطة بجماعة الفلول. ويمكن رصد هذا التماهي في ثلاثة ملفات أساسية:
1. العداء لتحالف “صمود” وشخصياته القيادية، وعلى رأسهم الدكتور عبد الله آدم حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي السابق وعضو الحزب الشيوعي الأسبق.
2. الموقف السلبي الحاد من دولة الإمارات العربية المتحدة.
3. الخصومة المستمرة مع قوات الدعم السريع. هذه القواسم المشتركة جعلت الحزب الشيوعي يلتقي ـ في الموقف، إن لم يكن في الهدف المعلن ـ مع السلطة الانقلابية والجماعات الإسلاموية التي كانت تمثل خصومه التاريخيين. فالتحالفات في سياق الحرب لم تعد تُبنى على الانتماءات الأيديولوجية فقط، بل على أولويات سياسية محددة، وفي هذه الحالة: إضعاف تحالف “صمود” وإقصاؤه من المشهد. تحالف “صمود”، بما يمثله من مظلة للقوى المدنية الساعية لإنهاء الحرب واستعادة المسار الديمقراطي، بات هدفاً مباشراً لهذه الاصطفافات. فالسلطة الانقلابية، ومعها مكونات إسلاموية مؤثرة، ترى فيه الخطر الأكبر، حتى قبل قوات الدعم السريع.
وقد انعكس ذلك، عدا الأقوال والخطب والتصريحات، في ممارسات عملية شملت الاعتقالات، والتصفيات الميدانية، وفتح دعاوى قانونية ضد قياداته، وهو ما يتجاوز الخلاف السياسي إلى مستوى الإقصاء الممنهج. أما الموقف من الإمارات، فيحمل بعداً أيديولوجياً متجذراً لدى التيارات الإسلاموية، إذ تنظر إليها باعتبارها حجر عثرة أمام تمدد المشروع الإخواني العالمي في المنطقة، وداعمة لتصنيفه دولياً كتنظيم إرهابي.
لكن اللافت أن الحزب الشيوعي تبنى خطاباً مشابهاً، رغم أن التقييم الموضوعي للتدخلات الخارجية يفرض الاعتراف بأن جميع دول الإقليم ـ وكذلك تركيا وإيران وروسيا ـ لها أيادٍ مباشرة في إشعال واستمرار الحرب.
والتركيز على شيطنة الإمارات وحدها يخدم عملياً مصالح الفلول وما تروّج له الآلة الإعلامية الإخوانية من أن استمرار الحرب سببه دعم الإمارات للدعم السريع. وقد تبنى الحزب هذه الرواية، رغم عجز السلطة الانقلابية وإعلام الكيزان عن تقديم أي دليل مادي عليها سواء في مجلس الأمن أو أمام محكمة لاهاي، مكتفين بتلفيق القصص، وآخرها حكاية الطائرة الإماراتية المزعومة التي قيل إنها تقل مرتزقة كولومبيين، والتي ضُربت في مطار نيالا وقُتل جميع ركابها وهي رواية سخر منها العالم بأسره.
أما في ملف الدعم السريع، فرغم الإرث التاريخي من الصدام بينه وبين الحزب الشيوعي، الذي يعود إلى ممارسات الجنجويد في دارفور ودورهم في قمع انتفاضة سبتمبر 2013 وفض اعتصام القيادة العامة، فإن التعامل مع الواقع الحالي يفرض قراءة جديدة.
رغم المرارات والانتهاكات الموثقة، فإن الواقع يفرض الاعتراف بأن لهذه القوات حواضن شعبية وقبلية لا يمكن تجاهلها في أي تسوية قادمة.
كل ذلك يستدعي من الحزب أن يتبنى موقف الحياد الإيجابي الرافض للحرب، والداعي للتواصل مع طرفيها بحثاً عن حل سياسي سوداني.
لكن بدلاً من ذلك، اتخذ الحزب موقفاً رافضاً لأي تواصل مع الدعم السريع، حتى من أطراف أخرى، وانساق خلف خطاب يربط “صمود” بالدعم السريع، رغم أن هذا الاتهام ارتبط بمذكرة أديس أبابا التي وقعها الطرفان، قبل أن يتراجع الجيش عنها، والتي ركزت على ثلاث نقاط أساسية:
وقف الحرب، والعودة للمسار المدني الديمقراطي، والمحاسبة على الانتهاكات (العدالة الانتقالية) وهي أهداف تتطلع إليها كل القوى المدنية.
الخطورة في هذا المسار تكمن في أن الحزب الشيوعي، إذا ما استمر في هذا التقاطع مع الإسلامويين، قد يجد نفسه ينتقل من موقع الحليف الخفي إلى موقع الضحية لاحقاً، في حال حسم الجيش وحلفاؤه المعركة لصالحهم. لن يبقى للحزب مكان، وربما تعود للأذهان مشاهد أسوأ بكثير من تصفيات يوليو 1971 على يد النميري، والتي لم تكن استثناءً، بل جزءاً من نمط سياسي يتكرر كلما ضاق المجال أمام القوى الدكتاتورية الفاشية.
إن الحزب مطالب اليوم بالتحول إلى موقف الحياد الإيجابي: عبر رفض الحرب علناً، والانخراط في جهود وقفها، وفتح قنوات حوار غير مشروطة مع جميع الأطراف، بما يحفظ استقلاليته ويعيد تموضعه كقوة مدنية مؤثرة.
كما أن العودة إلى التحالفات المدنية تمثل ضرورة استراتيجية، سواء عبر مراجعة الموقف من “صمود” بعيداً عن الشخصنة والتخوين، ومعالجة الخلافات السياسية، أو إعادة صياغة شراكات جديدة مع القوى الحية الرافضة للحرب والمؤيدة للتحول المدني الديمقراطي، لتجنب العزلة السياسية التي قد تفرضها الاصطفافات الحالية.
فالاستمرار في المسار الراهن يعني مزيداً من الارتهان لمواقف الدولة العميقة، وتحمل تبعات انتصار محتمل للجيش والإسلامويين، بما قد يشمل الإقصاء أو حتى التصفية السياسية والتنظيمية، ليس للحزب الشيوعي وحده، بل لكل قوى ثورة ديسمبر المجيدة.
إن إدراك هذه السيناريوهات والعمل على إعادة التموضع السياسي بات ضرورة عاجلة، ليس فقط لإنقاذ الحزب من مصير محتمل، بل أيضاً لضمان بقاء صوت مدني مستقل في مرحلة ما بعد الحرب، حيث ستكون موازين القوى شديدة السيولة وسريعة التغير.
قد مثّل موقف الحزب الشيوعي من الصراع بين “الجذري” و”الإطاري” مثالاً على الانغماس في تفاصيل الصراع السياسي، بينما تتواصل على الأرض حرب تمزق البلاد وتفتك بملايين المدنيين.
وعبر تبنيه خطاباً يضع القوى المدنية الأخرى في خانة الخصومة الرئيسية، انفتح الحزب ـ موضوعياً ـ على تقاطعات مع معسكرات الحرب، بما في ذلك بقايا النظام البائد وقوى الثورة المضادة، وهي تقاطعات تُضعف القضية الوطنية وتشتت جبهة السلام.
إن الواجب الوطني والسياسي في هذه اللحظة لا يكمن في تصفية الحسابات مع الحلفاء السابقين أو خصوم الأمس، بل في بناء جبهة واسعة وموحدة ضد الحرب، تضم كل من يرفضها بصرف النظر عن اختلافاته الأيديولوجية أو السياسية. هذه الجبهة هي السبيل الوحيد لحماية ما تبقى من الوطن، وفتح الطريق أمام أي مشروع حقيقي للتغيير الديمقراطي.
إن الحرب لا تترك مجالاً للترف السياسي ولا للصراعات الجانبية؛ فهي طاحونة تسحق الجميع بلا تمييز. وكل من يساوي بينها وبين خلافاته الثانوية إنما يضع يده ـ طوعاً أو جهلاً ـ في يد القاتل. فلنسمِّ الأشياء بأسمائها: العدو اليوم هو الحرب ومن يشعلها، وما عدا ذلك تفاصيل لا تساوي قطرة دم سودانية واحدة.
المصدر: صحيفة الراكوبة