من قتل أمير المجانيين.. ولماذا؟
أحمد عثمان جبريل
في صباحٍ موشّحٍ بالحزن، انطلقت النعوش من المزروب لا تحمل فقط أجساداً، بل تحمل معها هيبة الإدارة الأهلية، وقيمة الكلمة، وثقل الحكمة.. قُتل الناظر سليمان جابر جمعة سهل، ناظر قبيلة المجانيين وأحد رموز الإدارة الأهلية بكردفان، برفقة مجموعة من عمد ومشايخ القبيلة، إثر هجوم استهدف اجتماعاً للصلح كان يُعقد في المنطقة، تاركاً خلفه أسئلة مفتوحة، وجرحاً مفتوحاً في جسد الوطن.
❝ إن الذي يقتل الحكيم، لا يطفئ صوته، بل يوقظ ضمير التاريخ. ❞
أمين معلوف “الهويات القاتلة”
1.
عُرف الناظر سليمان جابر، في الأوساط الأهلية والسياسية، بكونه رجلاً من طرازٍ خاص؛ لا يعلو صوته في المجالس، لكن كلمته كانت إذا خرجت وُزِنت بميزان العقلاء.. لعب دوراً محورياً في فض النزاعات الأهلية، وترسيخ تقاليد الجودية في مناطق تغيب عنها الدولة كثيراً، ويحضر فيها الصراع والخذلان أكثر من الحضور الرسمي.
2.
كان اجتماع المزروب يوم الجمعة الأخير، أحد محاولات الإدارة الأهلية لرأب صدعٍ في جدار مجتمعٍ يتداعى تحت ضغط الحرب والانقسامات القبلية والنزوح. لم يكن الاجتماع سرياً، ولا مسيّساً، بل معلناً ومعروفاً لدى الأطراف الفاعلة في المنطقة. ومن هناك، انطلقت الضربة.
3.
بحسب ما توارد في وسائل الإعلام، فإن الهجوم جاء عبر طائرة مُسيّرة أو غارة جوية، استهدفت مكان الاجتماع بدقة، وأوقعت عدداً من القتلى من القيادات الأهلية. الحادثة تركت وراءها كثيراً من الجثث، لكن ما هو أفدح من الموت، أنها تركت الناس في ذهولٍ: “من يضرب مائدة صلح؟ ومن يستهدف رجلاً لا يحمل سوى عمامته وصوته؟”.
4.
لم تُعلن جهة واحدة مسؤوليتها صراحة.. لكن الاتهامات سرعان ما بدأت في التراشق. فبينما حمّلت بعض الأصوات قوات الجيش السوداني المسؤولية، خرجت جهات رسمية تتهم قوات الدعم السريع، التي لها حضور ميداني كبير في شمال كردفان، بأنها هي من تقف خ لف الاستهداف. وسط هذا التداخل، ضاعت الحقيقة بين الروايات، وبقيت الجريمة ثابتة لا تنكر.
5.
ما يزيد من تعقيد المشهد أن المنطقة التي وقع فيها الحادث المزروب ليست فقط منطقة متنازع عليها أو ساحة عبور، بل واحدة من آخر ما تبقى من المساحات التي يُمارس فيها الحكماء دورهم بعيداً عن صوت الرصاص. الناظر سليمان كان من بين الذين يطالبون مراراً بانسحاب أي قوة مسلحة تُهدد السلم الأهلي، ويدافع عن حيادية الإدارة الأهلية في وجه الاستقطاب السياسي والعسكري.
6.
لا شك أن الضربة لم تكن عشوائية. فأيّاً كانت الجهة المنفذة، فهي لم تضرب عن طريق الخطأ، ولم تسقط القذيفة في مكان اشتباه.. بل تم استهداف موقعٍ معلوم، في زمنٍ معلوم، وسط رجال معلومين، اجتمعوا لأجل التهدئة.. وهذا وحده كافٍ ليحوّل الحادث من “واقعة قتل” إلى “اغتيال رمزي” له دلالات عميقة.
7.
الذين سقطوا في المزروب لم يكونوا رجال سلطة أو قادة مليشيات، بل كانوا أمناء على موروث مجتمعي كامل، يحمل مفاتيح الاستقرار البديل عندما تغيب الدولة. وهذا يجعل من استهدافهم ضربة موجعة للنسيج الاجتماعي قبل أن تكون خسارة لأفراد. فالحكمة لا تورّث بسهولة، وإن مات الحكيم، لا يقوم مقامه مَن لا يعرف وزن الكلمات.
8.
من له مصلحة في هذه الفوضى؟ من يستفيد من إسكات صوت الاعتدال؟ من يريد تفكيك الإدارة الأهلية وزرع الشك داخل القبائل؟ كل هذه أسئلة مشروعة، لكن الإجابة عنها ليست في يد من يكتب هنا، بل في ذهن من يقرأ، وفي ضمير من يتابع تفاصيل هذا الوطن الذي يتناقص نوره يوماً بعد يوم.
9.
الدماء التي سالت في المزروب ليست مجرد نقطة سوداء في سجل هذا الصراع الممتد، بل هي علامة فارقة.. فحين يُقتل رجال الصلح في لحظة صلح، وحين يُستهدف من يُصلح، ولا يُحاسب أحد، تصبح البلاد كلها عرضة للتمزق، لأن الخيط الأخير خيط الثقة انقطع.
ومن هنا، لا بد أن يُسأل السؤال حتى النهاية:” لا من أطلق الطائرة المسيرة، بل من سمح للموت أن يصبح أداة تفاوض؟ ..
إنا لله ياخ.. الله غالب
المصدر: صحيفة التغيير