عمر سيد احمد
عندما كتب ‘مارك مجدي في مجلة المصري اليوم أن “ميلتون فريدمان رجل يجب تجاوزه”، لم يكن ذلك مجرد نقد لاقتصادي بعينه، بل تشخيص لأزمة ممتدة يعيشها الفكر الاقتصادي العالمي منذ عقود. فريدمان، منظر المدرسة النيوليبرالية، أسّس لرؤية متكاملة تقوم على تقديس السوق، وشيطنة الدولة، وتحويل كل شيء إلى سلعة، بما في ذلك البشر.
هذا المقال يحاول قراءة إرث ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو في ضوء التحولات العاصفة التي يعيشها العالم اليوم، من فشل العولمة النيوليبرالية، إلى صعود الشعبوية الأمريكية، وارتدادات الأزمة الاقتصادية العالمية.
فريدمان :الفرد أولًا والباقي تفاصيل
قام المشروع الفكري لميلتون فريدمان على دعامتين، قداسة السوق وحرية رأس المال: يرى فريدمان أن السوق، دون أي تدخل من الدولة، قادر على تحقيق أقصى درجات الكفاءة، وأن أي محاولة لإعادة التوزيع أو التدخل الحكومي تمثل انتهاكًا لحرية الفرد، وانحدارًا نحو “اشتراكية مقنّعة”.
وتعظيم الربح بوصفه الغاية النهائية: في مقاله الشهير بنيويورك تايمز عام 1970، أعلن أن “المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركة هي تعظيم أرباحها”، نافيًا أي دور اجتماعي أو أخلاقي لقطاع الأعمال
وقد مثّلت هذه الأفكار ثورة ضد الكينزية التي هيمنت على مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت أفكار فريدمان كجواب على أزمات التضخم في السبعينيات، وروّج لمفهوم “معدل البطالة الطبيعي”، ورفض السياسات التوسعية التي تستهدف خفض البطالة
الواقع يصطدم بالنظرية: من الأرجنتين إلى وول ستريت
غير أن هذه الرؤية التجريدية اصطدمت سريعًا بالواقع. فالأزمة المالية العالمية في 2008 كانت لحظة كاشفة، حيث انهار كل ما افترضته المدرسة النيوليبرالية عن كفاءة السوق، وظهر بوضوح أن الأسواق، بلا ضوابط، لا تُنتج الاستقرار بل الأزمات المتلاحقة. كتب بول كروجمان ساخرًا أن فريدمان ظن الإنسان الاقتصادي آلة حاسبة، لكن الرأسمالية غير المقيدة خلقت كوارث إنسانية .أما جوزيف ستيغليتز، فبيّن بوضوح في كتابه “ثمن اللامساواة” أن تبريرات فريدمان لسياسات الانكماش، وتحرير الأسواق، وتقييد دور الدولة، ليست علمية بقدر ما هي أيديولوجية، وأن “معدل البطالة الطبيعي” ليس أكثر من ترخيص دائم للفقر
منظر النخبة… ومنفذ الخراب العالمي
لم تتوقف خطورة فريدمان عند التنظير، بل في تحويل أفكاره إلى أدوات سيطرة وهيمنة. فقد أصبحت وصفاته حجر الأساس في برامج صندوق النقد والبنك الدوليين، خصوصًا تجاه دول الجنوب العالمي. ومن أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، تبنت الحكومات “إصلاحات هيكلية” وفق وصفة شيكاغو: تقشف، خصخصة، تحرير، فتح الأسواق. والنتيجة؟ انهيار الصناعة، تفكيك الدولة، تصاعد الديون، وتكريس التبعية.
لم ينجُ أحد تقريبًا من هذه الوصفة، ومع ذلك، لم تُحاسب المدرسة. بل على العكس، بقيت أفكار فريدمان حيّة، لأن النخبة الاقتصادية العالمية وجدت فيها أداة مثالية لتجريد الدولة من وظائفها الاجتماعية، وتحويلها إلى “مدير أعمال” للرأسمال العابر للحدود.
ترامب والعودة إلى الدولة: تناقضات من قلب الرأسمالية
ما يثير السخرية، أن أكثر التراجعات وضوحًا عن فكر فريدمان جاءت من داخل أمريكا نفسها، وخصوصًا خلال فترة حكم دونالد ترامب. فالرئيس الذي مثّل تمردًا على نخبة العولمة، اتخذ إجراءات تتناقض كليًا مع فكر فريدمان
فرض تعريفات جمركية على الصين دعم الصناعات المحلي. الهجوم على اتفاقيات التجارة الحر ،الدعوة لعودة الدولة إلى الاقتصاد الوطن .
هذا التناقض لا يعني أن ترامب كان تقدميا، لكنه كشف عن انهيار اليقين النيوليبرالي في عقر داره. لقد أصبحت الحماية، والدولة، والحدود، كلمات مشروعة بعد أن كانت من المحرمات. أي أن العالم، حتى في يمينه المتطرف، بدأ يبحث عن بدائل
السودان: النيوليبرالية تحت غطاء الشمولية
تُمثل تجربة السودان نموذجًا صارخًا لكيفية استخدام سياسات ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو تحت عباءة الحكم الشمولي الاسلاموي، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اندلاع الحرب في 2023. رفع النظام شعارات “التمكين الإسلامي” واستخدم شعار التحرير والخصصة للتمكين الاقتصادي للتنظيم بشكل انتقائي، شملت الخصخصة الواسعة، تقليص دور الدولة، تفكيك القطاع العام، وفتح الأسواق بلا ضوابط. وهي كلها وصفات مستلهمة من النيوليبرالية التي بشّر بها فريدمان، ولكن في سياق غابت فيه الحريات السياسية والرقابة المؤسسية.
تمّ بيع المؤسسات العامة بأثمان بخسة إلى شبكات محسوبة على النظام، وتفكيك المشاريع الزراعية وأكبرها مشروع الجزيرة ونظام الري والإنتاج التعاوني بالقضاء علي التعاون، مع إهمال قطاعات الزراعة والصناعة لصالح نشاطات ريعية غير منتجة لتصديرا وتهريب الموارد السودانية خاما ومنها الذهب وانتشرت تجارة العملة بحماية الدولة. وفي ذات الوقت، خُفّضت الضرائب على الأغنياء، وفُرضت زيادات متواصلة على أسعار السلع والخدمات، مما عمّق الفقر، وخلق طبقة صغيرة من الأثرياء المرتبطين بالسلطة، في مقابل غالبية مسحوقة.
الأسوأ من ذلك أن السودان أُخضع، في أكثر من مرحلة، لبرامج “إصلاح هيكلي” برعاية صندوق النقد الدولي تحت شعارات التحرير الاقتصادي، لكنها لم تؤدِّ إلا إلى انهيار الدعم وتآكل الخدمات الأساسية، وفقدان الثقة بين الدولة والمجتمع. لم تتحقق وعود الاستثمار أو النمو، بل تفاقمت الأزمات المعيشية، وساهم ذلك في تأجيج الثورات الشعبية التي بلغت ذروة تراكمها في ديسمبر 2018، ثم في خلق بيئة هشة انهارت معها مؤسسات الدولة مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 .
لقد استُخدمت أفكار فريدمان في السودان لا كأدوات إصلاح، بل كوسيلة لإعادة توزيع الثروة وتركيزها لصالح نخب ضيقة من العسكريين والمدنيين المرتبطين بالسلطة والطبقة الطفيلية التي تكونت في ظل اقتصاد الريع، وذلك على حساب الشعب. فبدلًا من أن تخلق هذه السياسات أسواقًا فعالة أو تنمية مستدامة، كرّست الفساد والريع، وأفضت إلى انهيار شامل في البنى الاقتصادية والاجتماعية.
تجربة السودان تمثّل حالة شديدة الوضوح لفشل تطبيق سياسات شيكاغو في ظل نظام شمولي قابض وفاسد للإسلام السياسي. فمنذ التسعينيات، اتبعت “الإنقاذ” طيلة ثلاثة عقود سياسات تقشف، خصخصة، وتقليص للدور التنموي للدولة، تحت إشراف مباشر من مؤسسات التمويل الدولية. وللأسف، واصلت حكومة الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة ذات النهج، إذ تبنّت الاستمرار في خطى هيمنة المؤسسات المالية العالمية، وتمادَت في تطبيق “الروشتة الخبيثة” المعروفة، فخفضت العملة وواصلت رفع الدعم عن السلع الأساسية.
لكن بدلًا من أن تنتعش الأسواق كما وعد منظّرو النيوليبرالية، شهد السودان تراجعًا في الإنتاج الزراعي، تفكيكًا للمؤسسات العامة، توسعًا في الفساد والريع، وارتفاعًا جنونيًا في تكلفة المعيشة. وهكذا تكشفت هشاشة نموذج السوق المفتوح في غياب المؤسسات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وظهر بجلاء كيف استُخدمت أفكار فريدمان لتجريد الشعب من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، بينما استفادت منها النخب السياسية والمالية المقربة من السلطة، إلى أن انهار الاقتصاد الهش تمامًا. واكتملت المأساة بانقلاب 25 أكتوبر 2021، وما أعقبه من اضطرابات عميقة انتهت بالحرب في أبريل 2023، التي دخلت عامها الثالث في ظل تدمير ممنهج لبنية الدولة، وخلّفت مآلات قاسية من تقتيل وتهجير ونزوح وإفقار شامل.
خاتمة: فريدمان… محطة لا مرجعية
إن إرث فريدمان الفكري لم يكن مجرد نظرية اقتصادية، بل تحول في كثير من دول العالم ومن بينها السودان إلى أداة قمع اقتصادي واجتماعي بيد الأنظمة الحاكمة. واليوم، وبينما تتراجع الولايات المتحدة نفسها عن كثير من مبادئ العولمة الحرة، يُصبح من الضروري إعادة التفكير في جدوى سياسات السوق المفتوح دون ضوابط، ورفض اختزال الإنسان إلى مستهلك، والمجتمع إلى سوق. إن تجاوز فريدمان ليس خيارًا نظريًا، بل ضرورة لبناء عالم أكثر عدالة واستقرارًا وسلامًا من شيكاغو إلى الخرطوم.
المصدر: صحيفة الراكوبة