من دكّة تعليم إلى دكان!.. التعليم بين قبضة الفساد ووهم «الأمل»

حسن عبد الرضي الشيخ

كانت مدينة أبوقوتة من أجمل بقاع السودان، واحةً خضراء تحفها الأشجار الباسقة من كل أطرافها. مدارسها جنان على أرض السودان الذي كان رائعًا قبل أن يحلّ عليه الخراب عقب انقلاب الإنقاذ المشؤوم. ثم جاء انقلاب ابن “الحلمان”، فزاد الطين بلّة. أما حرب “كرامة” الكيزان، فقد أحالت ما تبقّى من تلك البقعة الطيبة من أمنٍ إلى كابوس، يُقتل فيه أبناء الأطراف مواطنيهم من أجل “الشفشفة”، ويُقتل فيه المواطنون دفاعًا عن أعراضهم وممتلكاتهم.

وفي وطنٍ يئنّ تحت ركام الحرب والتشريد، تتسرّب آخر أنفاس الأمل من بين أنقاض المدارس والمستشفيات، ويُعاد إنتاج الكارثة بأسماء جديدة وأقنعة زائفة. من يظن أن حكومة “الأمل” المزعومة ستنتشل البلاد من وهدة الانهيار، فهو واهم، أو متواطئ، أو غارق في أحلام يقظة لا يوقظه منها إلا صفعة الواقع القاسي.

حكومة “بورتوكيزان” كما أسميها التي لا تضع السلام ووقف الحرب على أجندتها، ليست سوى استمرارية لنظام الإفساد المؤسسي الذي أسّسه الكيزان على مدى ثلاثة عقود، ثم ستورثه لأشباه المدنيين الذين سوف يلبسونهم عباءة التكنوقراط زورًا.
التعليم، هذا القطاع الحيوي، أضحى مرتعًا للفساد والإهمال، حيث لم يعد همُّ القائمين عليه بناء العقول، بل بناء الأرصدة وتشييد الدكاكين على حساب التلاميذ والمعلّمين.

انظروا إلى نموذج صارخ من عمق الريف السوداني مدرسة في أبوقوتة يتحوّل حرمها إلى سوق تجاري، لا إلى محراب علم! المدير، الذي يُفترض أن يكون راعيًا للعملية التعليمية، تحوّل إلى سمسار، يؤجر ٤٨ دكانًا من داخل حرم المدرسة، في قلب السوق، بعقود تمتد إلى ١٥ و٢٠ سنة! الدكان الواحد مقابل مبلغ هزيل لا يتعدّى ٥ آلاف جنيه سوداني في السنة، أي أقل من سعر قنينة وقود في السوق السوداء! أي عبثٍ هذا؟ وأي فسادٍ أفدح من ذلك؟

والأنكى من ذلك أن المدرسة نفسها تعاني من انهيار كامل في البنية التحتية: فصول بلا أسقف، حجرات بلا مقاعد، لا كنبات ولا طرابيز، لا وسائل تعليم، ولا بيئة تصلح حتى لتدريس أبجديات الحروف!

فكيف يُعقل أن تُحوَّل المدرسة إلى مجمّع تجاري، بينما تُترك الفصول تنهار فوق رؤوس الأطفال؟
كيف يُبرم مدير المدرسة عقودًا طويلة الأمد دون موافقة الوزارة أو المحليات أو حتى مجلس الآباء؟
ومن يضمن أن أموال هذه الإيجارات تدخل خزينة المدرسة أصلًا؟

هذا الفساد ليس مجرد حادثة معزولة، بل هو نموذج مصغّر لما آل إليه حال التعليم في ظل غياب المحاسبة، وغياب الرؤية، وغياب الدولة التي تحترم إنسانها. والكارثة الأكبر أن هذا يحدث وسط حديث رسمي عن “خطة وطنية للنهوض بالتعليم” و”استراتيجيات لتطوير المدارس”!

يا سادة، لا يمكن إصلاح التعليم من خلال مؤتمرات الورق، ولا عبر وزراء يكتبون الشعر وهم يدوسون على معاناة التلاميذ.
الإصلاح يبدأ من محاسبة المفسدين، ووقف العبث، وتحرير المدرسة من عقلية السوق والسمسرة.

من ينتظر “حكومة الأمل” كي تداوي جراح التعليم، فهو واهم؛ لأن من يُعيِّن كوزًا سابقًا وزيرًا، لا يمكن أن يبني وطنًا، ومن يضع خطة صحية بيد، ويمارس بيع المدارس باليد الأخرى، لا يؤمن لا بالتعليم، ولا بالصحة، ولا بالوطن.

هذه صرخة من أبوقوتة.. من قلب السودان المنسي، لنسمعها جميعًا:
أنقذوا التعليم من قبضة الفساد.. قبل أن يصبح الوطن كله دكانًا مؤجَّرًا بعقد طويل الأمد!

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.