
تأسيس تحت القصف: من خطاب المظلومية لتحمل المسؤولية
خالد فضل
معظم المبادئ الواردة في ميثاق “تأسيس” تدور، بصورة أو بأخرى، في أدبيات كل القوى المدنية الديمقراطية وحركات الكفاح المسلح في جنوب وشرق وغرب البلاد. كما وردت ضمن مبادئ إعلان أسمرا المشهور عام 1995م، وهو المشروع الذي تبنته قوى التجمع الوطني الديمقراطي حينذاك.
هناك بعض النقاط التي وردت بصيغة واضحة وصريحة، مثل النص على علمانية وفيدرالية الدولة، ووضع مبادئ فوق دستورية غير خاضعة للتعديل، وربط تحقيق مشروع “التأسيس” بحق تقرير المصير للشعوب السودانية. تلك ميزة للمشروع؛ فالوحدة الطوعية هي الأساس لبناء الدولة الوطنية.
الناظر لهذا الميثاق بموضوعية يلمح فيه بارقة أمل أخيرة وخطوة نحو بناء عقد اجتماعي ظل مفقودًا منذ استقلال البلاد. هو صيغة لبحث إمكانية العيش المشترك طوعًا بقواسم المصالح المشتركة، فالسودان بصورته التي انهارت الآن لم ينتظم مواطنوه في عقد اجتماعي أو مشروع وطني طوعي استوعبهم بعدالة وحرية، لذلك لم ينشأ مجتمع السلم والإخاء والحرية والمساواة، بل تعمّقت الفجوات، وتآكل هيكل الدولة بفضل الانحيازات والفساد والمحسوبية. أصبحت الدولة في نظر كثير من الشعب عبارة عن مركز خبيث، يخضع للابتزاز، وينسج المؤامرات من أجل استدامة نفوذ وهيمنة جهات محددة وعرقيات معينة، فنشأ خطاب مظلومية شامل في معظم أرجاء البلاد عوضًا عن مشروعات تنموية عملاقة تنهض بحياة الناس. لذلك ليس بغريب أبدًا سيادة وعلو خطاب الكراهية وممارستها في أتون هذه الحرب. لقد كشفت الحرب الشاملة التي ضربت المركز لأول مرة عن هشاشة الاجتماع البشري في السودان، فكانت الجهوية والعنصرية والقبلية هي الملاذات التي لجأ إليها الناس وقت الضيق، ولم يظهر ما تبقى من مؤسسات الدولة إلا كجزء من هذه المنظومات الاجتماعية الأضيق من الرحابة المفترضة في الدولة، ولا غرو أن يؤسس الجيش ويرعى الميليشيات القبلية والمناطقية والعقائدية. وتتخذ كثير من الإجراءات والقرارات وتطبيقها بمفهوم التجزئة والتقسيم، كما حدث في امتحانات الشهادة الثانوية وتبديل العملة وغيرها من إجراءات خاصة ببعض مناطق السودان واستبعاد مناطق واسعة منه. وتحاكم المحاكم بعض المواطنين بتهم التعاون مع الدعم السريع، الذي كان حتى صبيحة 15 أبريل جزءًا من المنظومة العسكرية/الأمنية لنفس الدولة. فرار المواطنين باتجاهين متعاكسين عند تقدم قوات الجيش وميليشياته أو الدعم السريع وميليشياته كذلك يعكس نظرة المجتمعات للقوات المتحاربة كونها تنحاز جهويًا أو عرقيًا، فكيف كانت هاتان القوتان تشكلان قوام المؤسسة العسكرية الوطنية المفترضة حسبما كان يصرح قادة الدولة المعطوبة وقيادات الجيش الوطني المزعوم؟ لقد كشفت الحرب هذه الأوهام وعرف المواطنون السودانيون طبيعة الدولة التي جثمت على صدورهم منذ الاستقلال.
بناء الدولة على أسس الفيدرالية الحقيقية التي تُمكِّن كل إقليم من التعبير عن مكوناته الاجتماعية، والاستفادة من موارده بنظرية التكامل لا التشاكس، وبمفهوم تبادل المصالح لا نهب الموارد، بحيث تصبح العاصمة مركزًا فعليًا لرمزية السيادة الوطنية والتنسيق ليس إلا. هذا النمط من شأنه فك الاحتقان الناجم عن السيطرة المركزية، والتي ظلت مفاصلها الرئيسية محتكرة بين مجموعات محددة جهويًا وعرقيًا وتنظيميًا، ولعل تجربة حكم الإسلاميين الطويلة قد عرّت تمامًا أسس منظومة الهيمنة التي سادت البلاد. وكشفت عن النوازع العنصرية والجهوية في بنية الدولة وانحيازاتها الدونية. لذلك يكتسب مشروع “التأسيس” موضوعيته في مخاطبة تلك الأخطاء بوضوح شديد وصراحة، وجعل طبيعة الدولة شرطًا لتأسيسها.
إن التحدي أمام تحالف “التأسيس” يكمن في تحمل المسؤولية بقدر ما حددتها النصوص. بمعنى أن يكون للهدف المنصوص عليه مقابله المادي المشهود؛ تلك هي أرضية الاختبار الحقيقي، وليس المظهر الشكلاني بكون حميدتي رئيسًا والحلو نائبًا وفلان وزيرًا وذاك ناطقًا رسميًا. خلفية القوى الموقعة على الميثاق والشخصيات السياسية والفكرية والمهنية التي شاركت في إعداده، والتي تمثل وجهات نظر مختلفة وتباينات إثنية وجهوية وقبلية تمثل في الحقيقة عنصر قوة لهذه الأطروحة، فالأصل في السودان هو التعددية بمختلف أشكالها، والغائب دومًا هو كيفية إدارة هذه التعددية بحنكة وحصافة. إن التوق لبناء دولة حقيقية يمتلكها السودانيون بمختلف تعددياتهم تبدأ من قراهم وفُرقانهم وأحياءهم في المدينة، هذه الدولة الحلم هي محط الأمل والرجاء، إذ أنها تبدد هواجس التهميش وخطاب المظلومية بتطبيق الفيدرالية الحقيقية في دولة ديمقراطية.
أعلم أن مهمة تأسيس الدولة المرجوة هو واجب جميع من يؤمن بضرورة التغيير وينشده، ووجود أكبر إجماع وطني ممكن هو السبيل لبلوغ الهدف، وأرجو أن يكون واضحًا أن الإنسان الفرد هو الغاية من كل هذا النضال والسعي لبناء الدولة. لذلك تتضاعف مسؤولية “التأسيسيين” في تقديم نموذج جيد لما يقولونه في المكتوب، ففي ذلك حافز للمترددين والمتحفظين، كما أنه يزعزع من مواقف الرافضين ويضعفها. فهل ينجح “تأسيس” في هذا الاختبار أم يكون تكرارًا لسيناريوهات عديدة جُرّبت وفشلت، وبالتالي يندثر هذا البلد ويصبح (كان اسمه السودان) لا سمح الله، وتغلب عوامل التفكك والتفتيت ويرتد الناس إلى عصر السلطنات والدويلات والمشائخ والمكوك؟
المصدر: صحيفة التغيير