زهير عثمان حمد

زهير عثمان حمد

في الذكرى السبعين لانطلاق الشرارة من توريت، لا نستذكر حدثًا تاريخيًا مغلقًا بين صفحات الكتب، بل نستحضر سؤالاً حيًا لا يزال ينزف. التمرد الذي بدأ في عام 1955 لم يكن مجرد تمرد عسكري؛ كان صرخة وجود من هامش تم طمسه وإقصاؤه بقوة السلاح وسلطة المركز. كان إعلانًا مسبقًا عن فشل مشروع الدولة الوطنية في السودان ما بعد الاستعمار، دولةٌ بنتها نخب في الخرطوم على مقاسها، بلغتها، وبرؤيتها الضيقة، فأنكرت تعددية البلاد وجعلت من الجنوبي “آخر” في وطنه.
كانت توريت هي اللحظة التي قال فيها الهامش: “كفى”. كانت الجرح الأول الذي فضح مرضًا استوطن جسد الدولة منذ ولادتها: مرض الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية. هذا التمرد لم يكن، كما روّجت سردية المركز، “خيانة” أو “تمردًا على الشرعية”، بل كان أول محاولة جادة لتحرير مفهوم الوطن نفسه من سجن الأغلبية المفترضة وإطلاق سراحه ليكون فضاءً للجميع.
من رحم القمع، وُلد الحلم الانفصاليلم يكن حلم الانفصال هو الخيار الأول، بل كان الملاذ الأخير. لقد سبقه عقود من الكفاح لإعادة تعريف السودان، من نضال “أنيانيا” الأول إلى اتفاقية أديس أبابا 1972 التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا، وكانت فرصة أخيرة للدولة لتصحيح مسارها.
لكن النخبة في الخرطوم، بقيادة نميري لاحقًا، لم تتحمل هذا التصحيح. فكان قراره القاتل: تفكيك الاتفاقية، وإعادة تقسيم الجنوب، وإدخال قوانين سبتمبر 1983 الإسلامية التي مثلت صفعة نهائية لأي احتمال للتعايش.
هنا، تحول المطلب من “الفيدرالية” و”الاعتراف” إلى “التحرير” و”الانفصال”. لم يكن القرار نتاج مؤامرة خارجية فحسب، بل كان ردة فعل طبيعية لقمع متواصل. ولدت الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) لتحمل هذا الحلم الجديد أو هذا اليأس الجديد على أكتافها.
لم تكن الحرب مجرد صراع على السلطة، بل كانت صراعًا على الهوية: من هو السوداني؟ وما هو سودانه؟ ومن له الحق في تعريفه؟
الاستقلال: انتصار الشعب وإخفاق النخبةفي التاسع من يوليو 2011، اهتز العالم ابتهاجًا بولد أصغر دولة فيه. كان لحظة تاريخية، نُصر فيها إرادة شعب بعد نصف قرن من التضحيات الجسام. لقد صوت الجنوبيون بنسبة 98% للانفصال، ليس حبًا في الانعزال، بل هربًا من عنصرية دولة لم تر فيهم مواطنين كاملي الأهلية أبدًا. كان تصويتًا على جرح لم يندمل، ورفضًا قاطعًا للاستمرار في العيش تحت نير دولة رأت فيهم رعايا من الدرجة الثانية.
لكن هذا الانتصار التاريخي للشعب سرعان ما تحول إلى إخفاق مأساوي للنخبة الحاكمة الجديدة. فما إن جفت أحبار إعلان الاستقلال، حتى بدأت دولة جنوب السودان الجديدة تُعيد إنتاج نفس علاقات القهر والاستبعاد التي ثار عليها الآباء المؤسسون. تحول الصراع من “الجنوب ضد الشمال” إلى “الدينكا ضد النوير” وضد كل مجموعة أخرى. استبدلت هيمنة المركز العربي الإسلامي في الخرطوم بهيمنة مركز عرقي جديد في جوبا.
سُحق الحلم تحت وطأة الفساد المستشري، وعودة النزاعات القبلية المسلحة، وانهيار الخدمات الأساسية، وتفشي انتهاكات حقوق الإنسان. لقد خرج الجنوبيون من تحت نار ليقفوا في أخرى. ها هو السؤال الذي يطرحه إدوارد كورنيليو بقوة: “هل كان الاستقلال شفاءً، أم إعادة إنتاجٍ للندوب القديمة بلغةٍ جديدة؟” Evidence على الأرض تشير إلى الجواب الثاني.
توريت اليوم: الذاكرة التي تتحدى النسيانفي الذكرى السبعين، توريت ليست مجرد مكان. إنها فكرة. هي رمز للرفض الأول، ولكنها أيضًا تحذير من أن التحرر من المحتل الخارجي هو task أسهل من بناء وطن عادل داخليًا.
الجرح الذي أحدثته توريت في جسد الدولة السودانية القديمة لم يندمل، والجرح الذي أحدثه فشل دولة الجنوب في مواطنيها لا يزال مفتوحًا ينزف.
الذكرى ليست للاحتفال بانتصار، بل هي مناسبة لتساؤل قاسٍ: ماذا أفعلنا بحريتنا؟ كيف سمحنا لشجاعة من قال “لا” في 1955 أن تتحول إلى خوف من قول “نعم” لمشروع مواطنة حقيقية بعد 2011؟

العدالة التي قاتل من أجلها ذلك الجيل لم تكن مجرد علم جديد ونشيد وطني، بل كانت تعني مدارسًًا، ومستشفيات، وطرقًا، وقضاءً نزيهًا، وأن يعيش الإنسان في أمان دون خوف من انتمائه العرقي أو السياسي. هذه العدالة هي التي لم تتحقق.
الخاتمة: من أجل ذكرى ذات معنىفي الذكرى، لا يكفي أن نرفع الأعلام. المطلوب هو أن نرفع الأسئلة:
كيف نبني دولة للمواطنة المتساوية، وليس للانتماءات العرقية الضيقة؟
كيف نتحول من ثقافة “المحررين” إلى ثقافة “الحكام الخدومين”؟
كيف نجعل من الدم المسكوب أساسًا لدستور إنساني، وليس ذريعة للاستئثار بالسلطة والثروة؟
توريت تذكرنا أن قيمة أي ثورة لا تقاس بلحظة انتصارها، بل بقدرتها على تحقيق العدالة التي انطلقت من أجلها. الوطن الحقيقي ليس هو الذي يغير علمه، بل هو الذي يغير علاقاته الداخلية من علاقة هيمنة إلى علاقة مساواة، ومن ثقافة إقصاء إلى ثقافة اعتراف.
الجرح الذي لم يتحول إلى ندبة هو جرح لا يزال ينتظر العلاج. والعلاج لن يكون بشعارات الانفصال، بل بمشروع وطني داخلي يعترف بالآخر ويصون كرامته. هذا هو الدرس الأعمق من توريت، وهو الدرس الذي لم تتعلمه النخب في جوبا بعد.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.