بعد اندلاع حرب 15 أبريل، تشكلت في السودان تحالفات عسكرية وسياسية متضادة في الشكل، لكنها تتشابه في الجوهر، على ضفة، يقف معسكر الجيش وحلفاؤه، وعلى الضفة الأخرى، تحالف تأسيس بقيادة قوات الدعم السريع والقوى المصطفة إلى جانبه، وبين الضفتين تبدو البلاد أسيرة لتوازنات مؤقتة
تتصاعد الخلافات بين أطرافها حينًا وتهدأ حينًا آخر، وسط تحالفات فرضها منطق السلاح أكثر مما أنتجتها إرادة وطنية حقيقية.
كمبالا: تقرير: التغيير
ظهرت بوادر الانقسام داخل حكومة بورتسودان بعد أشهر من بداية الحرب، وتفاقمت لاحقاً مع تقدم العمليات العسكرية وتغير طبيعة السيطرة على الأرض، ما كشف عن اختلافات عميقة بين قيادة الجيش من جهة، وعدد من الفصائل والكتائب المسلحة التي تقاتل معه من جهة أخرى خاصة، حول طريقة إدارة العمليات العسكرية، وتوزيع الأدوار، والتعامل مع المدنيين في المناطق التي تم استعادتها من سيطرة قوات الدعم السريع.
ومن أبرز الكتائب التي دارت حولها هذه الخلافات، كتائب “البراء” الموالية للحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني المحلول، إضافة إلى عناصر من ما يعرف بـ (قوات كيكيل)، وهي مجموعة كانت في السابق جزءاً من الدعم السريع ثم انضمت لاحقاً إلى صفوف الجيش. وُجهت اتهامات لبعض هذه التشكيلات بالعمل خارج منظومة القيادة الرسمية للقوات المسلحة، أو بالارتباط بمرجعيات أيديولوجية، لا سيما بالنسبة لكتائب البراء المحسوبة على التيار الإسلامي.
صراع التيارات في بورتسودان
قبل الإعلان عن التشكيل الحكومي الجديد في معسكر بورتسودان، نشبت خلافات حادة بين مكونات التحالف السياسي والعسكري الداعم للجيش، تمحورت حول تقاسم الحقائب الوزارية السيادية، خاصة وزارتي المعادن والمالية.

وتعود جذور الخلاف إلى مطالبة عدد من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا بضمان تمثيل فعلي في الوزارات ذات الموارد والسيادة الاقتصادية، باعتبارها استحقاقاً بموجب الاتفاق. في المقابل، تمسك المجلس السيادي بقيادة عبد الفتاح البرهان بالتحكم في توزيع هذه الوزارات، ما أثار توترًا بين أطراف التحالف، وفتح الباب لاتهامات بالإقصاء وتهميش بعض الحلفاء.
وبموجب اتفاق جديد، توصل الطرفان إلى تسوية نهائية تقضي بمنح هذه الفصائل ست وزارات اتحادية، من بينها وزارتا المالية والمعادن، وهما من أهم الحقائب السيادية المرتبطة بإدارة الموارد الطبيعية والإقتصاد.
تحالف هش
بالمقابل يواجه تحالف “تأسيس” خلافات داخلية حادة عرقلت تشكيل الحكومة التي اُعلنت مؤخرًا. فقد انفجرت التباينات بين مكوناته، خاصة حركة جيش تحرير السودان المجلس الانتقالي بقيادة الهادي إدريس وتجمع قوى تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر، بشأن توزيع المناصب داخل السلطة المزمع إعلانها في المناطق الخاضعة لسيطرة التحالف.
وتتركز أبرز الخلافات حول منصب رئيس الوزراء، حيث رفضت الحركات المسلحة منح المنصب للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، رغم توافقها السابق على تولي محمد حمدان دقلو (حميدتي) رئاسة المجلس الرئاسي. وهددت الشعبية شمال بالانسحاب من التحالف إذا لم تُمنح الموقع التنفيذي الأول، ما كشف هشاشة التفاهمات داخل “تأسيس”، وأدى لتأجيل إعلان الحكومة الجديدة
ويرى مراقبون أن هذه التباينات تعكس هشاشة التحالفات المؤقتة المبنية على التوازنات العسكرية والسياسية، وتؤكد أن حكومة بورتسودان تواجه تحديات داخلية لا تقل تعقيداً عن تلك التي يواجهها خصومه في حكومة تأسيس.
منطق الغنائم
يقول الباحث في قضايا الصراعات والأمن الافريقي محمد تورشين إن البلاد تعيش لحظة فارقة تكشف عجز النخب السياسية والعسكرية عن إنتاج مشروع وطني مشترك. فحتى الأطراف المتحالفة ظاهرياً، مثل الجيش والحركات المسلحة المنضوية في “القوات المشتركة” و”درع السودان” وكتائب “البراء”، لا تخفي خلافاتها، التي قد تنفجر في أي لحظة على غرار ما حدث من تمرد قوات الدعم السريع.
باحث: غياب الرؤية الموحدة بين هذه الفصائل وانعدام الحوار السوداني السوداني يرسخان منطق الغنائم والمحاصصة
ويشير تورشين في حديثه مع (التغيير) إلى أن غياب أي رؤية موحدة بين هذه الفصائل، وانعدام الحوار السوداني السوداني الحقيقي، يرسخان منطق الغنائم والمحاصصة بدل التأسيس لمشروع دولة.
ومن جهة أخرى، فإن معسكر تحالف “تأسيس” بقيادة الدعم السريع لا يبدو أكثر تماسكاً، كما يذكر تورشين، بل يعاني من انقسامات حادة بين مكوناته، لا سيما بين الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، وبعض الحركات الدارفورية مثل جيش تحرير السودان (الهادي إدريس) وتجمع قوى تحرير السودان (الطاهر حجر).
ويؤكد تورشين أن هذا التباين يعكس تنافساً على السلطة والمناصب، لا توافقاً على مبادئ وطنية أو تصور مشترك للمستقبل.
لا فرق بين بورتسودان ونيالا
ويذهب الصحفي والمحلل السياسي، علاء الدين بشير، إلى الجذور الأعمق للأزمة، مبيناً أن الجيش السوداني هو من أسس لهذا الواقع الفوضوي عبر اعتماده على تكوين الميليشيات منذ عقود، مستشهداً بتجربة الدعم السريع التي كانت أداة بيد النظام السابق ثم تحولت إلى قوة مستقلة تنازع الجيش سلطته.
محلل سياسي: الجيش السوداني هو من أسس لهذا الواقع الفوضوي عبر اعتماده على تكوين الميليشيات منذ عقود
ويضيف بشير أن استمرار الجيش في التحالف مع الميليشيات، ومنحها مفاتيح السيطرة على الوزارات ذات الموارد كوزارة المعادن والمالية، سيزيد من تدهور الدولة، لأن هذه الفصائل ستستخدم الموارد لتقوية نفسها، بينما يعجز الجيش عن ضبطها، مما سيؤدي لتفجر الخلافات والتمردات المحتملة داخل معسكر بورتسودان نفسه.
ويشير إلى أن الدعم السريع وتحالف “تأسيس” لا يختلفان في جوهرهما، فكلاهما تحالف هش، أقيم وفق منطق الضرورة، ويفتقر إلى رؤية موحدة لبناء الدولة. وينبه بشير، إلى أن دوافع تشكيل الحكومة الموازية في نيالا تبدو أقرب لتكتيك تفاوضي من كونها مشروعاً لإعادة البناء أو تقديم الخدمات، ما يجعلها عرضة للانهيار أمام أول اختبار جدي، سواء من المجتمع الدولي أو من المواطنين في مناطق سيطرتها.
تدحرج كرة الثلج
أما استاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، إبراهيم كباشي، فيقدم قراءة أوسع لواقع التحالفات العسكرية والسياسية، ويرى في حديثه لـ (التغيير) أن هذه التحالفات هي نتاج للحرب وليس لمشروع سياسي متكامل. ويصفها بأنها “تحالفات أمر واقع”، تقوم على تكتيكات اللحظة لا على أسس استراتيجية.
ويؤكد أن تحالف بورتسودان مثلاً لا يقوم على رؤية وطنية حقيقية، بل يتغذى من عقلية “غنائمية”، سواء لدى الجيش أو الميليشيات المتحالفة معه، ما يجعل الخلافات حول السلطة والمناصب أمراً حتمياً ومتكرراً.
ويصف الصراع في بورتسودان بأنه”صراع سلطة معلن” تدور رحاه حول مؤسسات قائمة ومصالح مركزية وموارد فعلية، ما يجعله أكثر وضوحاً وحدة نتيجة للمكاسب المرتبطة به. بالنسبة لمعسكر تأسيس لا يزال في طور التشكل، ويحاول بناء دولة جديدة أو إعادة تأسيس مؤسساتها، لذلك يشير كباشي، إلى أن الخلافات فيه لا تزال خفية، يغلب عليها الطابع التطميني وتفادي الانفجار المبكر، خصوصاً في ظل غياب شخصية قيادية كاريزمية تمتلك رؤية سياسية واضحة ومشروعاً متكاملاً.
أستاذ علوم سياسية: صراع بورتسودان معلن يدور حول مصالح مركزية بينما خلاف تأسيس يغلب عليه الطابع التطميني وتفادي الانفجار المبكر
ويذهب كباشي في قراءته الى أن الوضع في تحالف حميدتي/ الحلو، لا يقل خطورة، حيث توجد تناقضات صارخة بين مكوناته. فالدعم السريع، رغم محاولاته بناء مؤسسة سياسية، لا يزال محاطاً بمزيج غير منسجم من فلول النظام البائد، وإسلاميين، وثوريين سابقين، وأحزاب، ما يحول دون تبلور مشروع سياسي واضح.
كما أن العلاقة بين الدعم السريع والحركة الشعبية شمال تظل محكومة بالمرارات التاريخية، وهي علاقة تكتيكية أكثر منها استراتيجية، تفتقر إلى الانسجام الميداني، ما يجعل احتمالات تفجر صراعات عسكرية داخل هذا المعسكر أمراً وارداً جداً لافتقارها هذه المجموعات لهياكل تنظيمية واضحة، لا سيما في ظل محاولات صهرها في إطار واحد.

ويحذر أستاذ العلوم السياسية، من أن غياب الإطار الدستوري والمساءلة القانونية في كلا المعسكرين يفتح الباب لتكرار التجاوزات والانتهاكات، خصوصاً في ظل سيطرة الآلة العسكرية على المجال السياسي، ويضيف أن صعود الخطاب الشعبوي ذي الطابع العنصري والجهوي يعزز من احتمالات الانقسام، ويخلق بيئة خصبة لنزعات انفصالية قد تؤدي إلى “محرقة كبرى”، بحسب تعبيره، خاصة مع تزايد الشكوك وانعدام الثقة بين المكونات المتحالفة، ويخلص في ختام حديثه إلى أن الصراعات ستتواصل و ستتخذ أشكالاً متجددة ومتنوعة، وهي بداية لتدحرج كرة الثلج .
ما يجمع عليه الخبراء هو أن كلا المعسكرين يفتقدان إلى مشروع وطني حقيقي، ويعانيان من أزمات بنيوية في الرؤية، التنظيم، والثقة المتبادلة. فالواقع الحالي هو نتاج لتحالفات مؤقتة، وصراعات تحت السطح مرشحة للانفجار كلما تراجعت العمليات العسكرية وبرزت الحاجة إلى تقاسم السلطة والموارد. وبين بورتسودان ونيالا، تتبلور خريطة جديدة للصراع في السودان، لكن من دون أي أفق واضح للاستقرار أو بناء الدولة.
المصدر: صحيفة التغيير