من المسؤول عن الإهانة؟

حسن عبد الرضي الشيخ
في قلب المأساة التي يعيشها السودان، وتحت ظلال حرب لا ترحم، تتكشف أمام أعيننا حقيقة مُرّة : أطفال بلا مدارس مهيأة، ومعلمون بلا رواتب، وأسر بلا مأوى، ووطن يتآكل من الداخل. مأساة لا تخفى على أحد، ورغم ذلك، يعلو صوت بعض مسؤولي التعليم في الولايات المتأثرة بالحرب، مطالبين المعلمين بالعودة إلى المدارس، ومهددين إياهم بالفصل، وكأنهم يعيشون في واقع موازٍ.
أي منطق هذا؟
كيف يمكن لوزير تربية، أو مدير تعليم، أو حتى مساعد فني، أن يطالب زملاءه المعلمين بالعودة إلى مدارس لا وجود لها؟ يطالبهم بتسجيل الحضور في دفاتر انمحى فيها معنى الالتزام، في ظل غياب تام للبنية التحتية: لا مدارس، لا كتب، لا كراسي، لا ماء، لا كهرباء، لا أمن، ولا حتى رواتب.
أي احترام يرجوه هذا “المسؤول!” من زملائه، وهو لا يملك شجاعة السؤال عن حقوقهم، ولا يتجرأ على رفع صوته أمام من بيدهم القرار؟ لكنه لا يتردد لحظة في إطلاق تهديداته نحو من هم دونه سلطة … زملاؤه المعلمون.
والأدهى، أن من يطلق هذه التهديدات يتقاضى راتبه بانتظام، ويحصل على حوافزه كاملة، ويجلس في مكتبه المكيف الوثير، فقط لأنه اختار أن يكون ترسًا في آلة النظام، حتى لو كان الثمن كرامة زملائه ومستقبل أبنائنا.
فهل أصبح فتح المدارس غاية في ذاته؟ أم وسيلة لإذلال المعلم وإهانة التلميذ والأسرة؟
إن الدعوة إلى العودة للمدارس دون وجود مقومات التعليم الأساسية، لا تعني إلا شيئًا واحدًا: تزييف الواقع، وتجميل صورة الخراب، وإرضاء من هم في الأعلى على حساب من في الميدان. فإذا كنا نفتقد الماء، والكهرباء، والأمان، والاستقرار، فكيف نمتلك الجرأة على الادعاء بوجود تعليم حقيقي؟ وأي تعليم هذا الذي يُبنى على خوف المعلم، وجوع التلميذ، وانكسار الأسرة؟
أتذكّر حادثة كاشفة إبان الثورة: حين أضرب المعلمون احتجاجًا على تأخر المرتبات، جاءنا وفد من الموجهين برفقة مساعد فني، وبدأوا نقاشًا سطحيًا معنا في مدرسة الواحة شرق. قلت له: “إذا كان أمر التلاميذ يهمك، فهو يهمنا أكثر. لكن، إن غادرنا جميعًا المدرسة، فكيف ستحل مشكلتهم؟”
سؤال واحد فقط أفحمه، فهرب صامتًا، لأن الحقيقة كانت أقوى من كل تهديداته.
رسالتي اليوم لكل مسؤول في التعليم:
إذا لم تكن شجاعًا بما يكفي للمطالبة بحقوق من تقودهم، فلتصمت. وإذا لم تملك الجرأة على مواجهة من يتسببون في انهيار التعليم، فلا تتجرأ على لوم المعلمين الذين اختاروا أن يصمدوا بكرامة لا بذل. فأنتم تعرفون جيدًا أن التعليم لا يشكل أولوية لمن تمثلونهم، بينما المعلم والتلميذ يبحثان عن البقاء والكرامة أولًا.
إن احترام الزمالة يبدأ من الاعتراف بالألم المشترك، لا من مكاتب مغلقة وحوافز مفتوحة.
فلا تهينونا مرتين : مرة بصمتكم، ومرة بتهديداتكم.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة