السودان: من الفشل البنيوي إلى الوصاية الدولية عار النخب ودرس السيادة المهدورة

خالد كودي 

22/7/2025

ليس ما يجري اليوم في السودان من استباحةٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ وديبلوماسيةٍ سوى النتيجة المنطقية لمسار طويل من الفشل البنيوي، كانت النخب المركزية من الإسلاميين أولًا، ثم النخب المدنية “المستنيرة” لاحقًا هم مهندسو خرابه، لا ضحاياه. فالسودان لم يأتِ إليه الخراب بغتة، بل تم تأسيسه منذ البداية على أسس لا تفضي إلا إلى الانفجار.
منذ الاستقلال في عام 1956، اختطت النخب السودانية طريقًا معوجًّا لبناء دولة مركزية تستند إلى استعلاء ديني وثقافي وعرقي، وتوزيع غير عادل للثروة والسلطة، وصمت متواطئ حيال حقوق الأغلبية من المهمشين. كانت تلك النخب تتحدث عن الوطن بينما تقصيه، ترفع شعارات الديمقراطية بينما تحتكر القرار وبصلف، تدعي السيادة بينما تُسلّم البلاد لصفقات إقليمية أو دولية مقابل الحفاظ على احتكارها الرمزي والاقتصادي.

لم تكن المأساة الراهنة وليدة الحرب بين الجيش والدعم السريع فحسب واغيرهما من الحركات المسلحة، بل هي تتويج لتاريخ طويل من الطمس والتهميش والعنف الرمزي والمادي والعنصرية والغباء. وها نحن اليوم أمام لحظة فضيحة مكتملة: السودان يناقَش مصيره في واشنطن، في غياب تام لأي تمثيل سوداني. لا عبد الله حمدوك، لاالبرهان ولا القوى المدنية من يمينها ليسارها، ولا “قادة” الحرب، لا أحد تمت دعوته. لأن أحدًا منهم لا يُرى على طاولة الأمم، إلا كعناصر فاشلة أو خرقٍ لا يستحق الاهتمام، اوليس هذا مؤسفا بعد نحو سبعين عاما من الاستقلال!!

يضم اجتماع “اللجنة الرباعية” نهاية هذا الشهر وزراء خارجية أمريكا، السعودية، الإمارات، مصر، وربما قطر وبريطانيا. أما السودان، فليس فيه طرف يُعتد به، بل تحول إلى “ملف أمني” يُدار بين أوصيائه، كما تُدار شؤون القُصَّر. وليس في ذلك مدعاة للمفاجأة، فالسيادة لا تُنتزع بالجعجعة الخطابية، ولا تُصان بدق طبول الحرب أو التماهي مع الجيوش. السيادة مشروع تحرري عادل، لا شعار أجوف.

وقد يضحك المرء من مشهد النخب السودانية وهي ترفع عقيرتها باتهامات “الخيانة الوطنية” ضد دعاة السلام، بينما هم أنفسهم من سلموا القرار السياسي والاقتصادي، وحتى الديني، إلى العواصم الخارجية. الإسلاميون، الذين حوّلوا السودان إلى قاعدة لحروب الوكالة، والقوى المدنية التي ركبت موجة الثورة ثم أعادت تدوير فشلها عبر شعارات براقة بلا مشروع
أكثر ما يفضح هذه النخب هو أن بلدانًا نالت استقلالها بعد السودان بعقود أصبحت اليوم تقرر مصير السودان: قطر، الإمارات، حتى جنوب السودان ينظر إلينا بشفقة، بينما نحن نغرق في تناحر عبثي أنتج أسوأ أزمة إنسانية في العالم المعاصر.

الدرس اليوم واضح: لا مخرج من هذه الورطة التاريخية إلا بطرح أسئلة التأسيس من جديد. لا بد من بناء مشروع دولة على أسس جديدة كليًا: العلمانية، والمواطنة المتساوية، وحق تقرير المصير، والعدالة التاريخية. مشروع لا يرتكز على “الصفوة” الفاشلة بل ينطلق من المهمشين، من قوى القاعدة الاجتماعية التي دفعت ثمن الحروب والهامشية والاستعلاء.

نعم، ليت المجتمع الدولي ينجح في وقف الحرب بالحق طبعا، ولكن الأهم من وقف البنادق هو كنس هذا التاريخ الطويل من القبح السياسي، وإعادة تعريف السودان نفسه: لا كدولة عربإسلامية متخيلة، بل كفسيفساء متعددة، لها الحق في إعادة كتابة مصيرها من القاعدة، لا من العواصم الإقليمية ولا من نخب الخرطوم المترهلة.

ولذا، نسأل أخيرًا لا بخبث، بل بسخرية حزينة: هل ما زالت النخب بشقيها الإسلامي والمدني تتحدث عن “الكرامة الوطنية”؟ أية كرامة تبقى عندما تُناقش مصائرنا ونحن خارج القاعة؟

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.