من السلطة إلى الدولة تحديات بناء السودان ما بعد الاستقلال الديمقراطية والانقلابات .. كيف تعطل بناء الدولة؟(٤)

منذ استقلال السودان عام 1956، لم تستمر أي تجربة ديمقراطية لفترةٍ كافيةٍ لتأسيس دولةٍ مستقرةٍ قائمةٍ على المؤسسات. كلما بدأت محاولةٌ لبناء نظامٍ ديمقراطيٍّ، جاءت الانقلابات العسكرية لتقطع الطريق، مما أدى إلى إعادة إنتاج السلطة الفردية وإجهاض فرص التأسيس الوطني.
شهد السودان ثلاث فترات ديمقراطية قصيرة، انتهت جميعها بانقلاباتٍ عسكريةٍ كرست الحكم الاستبدادي، وهي:
1. *ديمقراطية ما بعد الاستقلال (19561958) وانقلاب الفريق عبود*
كانت أول حكومة وطنية بعد الاستقلال ائتلافًا هشًّا بين الأحزاب التقليدية (الأمة، الاتحادي، الحزب الشيوعي، والإخوان المسلمون)، لكنها لم تتمكن من إدارة التنوع السياسي والاجتماعي.
*أسباب سقوطها:*
صراعات الأحزاب السياسية وعدم التوافق على رؤيةٍ وطنيةٍ موحدةٍ.
ضعف المؤسسات الديمقراطية وغياب الثقافة الديمقراطية الحقيقية.
تدخل الجيش الذي استغل الفوضى السياسية وقام بانقلاب 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، الذي حكم حتى 1964.
النتيجة: أدى الانقلاب إلى عسكرة السلطة، واستمر السودان تحت الحكم العسكري ست سنوات، مما عزز هيمنة الجيش على السياسة.
2. *الفترة الديمقراطية الثانية (19641969) وانقلاب نميري*
بعد ثورة أكتوبر 1964، عاد الحكم المدني عبر انتخاباتٍ جديدةٍ، لكن الوضع لم يكن مستقرًّا، إذ شهدت الفترة صراعاتٍ حزبيةً حادةً وانقساماتٍ سياسيةً عميقةً.
*أسباب سقوطها:*
فشل الأحزاب في إدارة الخلافات السياسية، مما أدى إلى ضعف الحكومة.
استمرار الصراع بين القوى اليسارية والقوى التقليدية، خصوصًا بين الحزب الشيوعي والجماعات الإسلامية.
استغلال الجيش للفوضى السياسية، حيث قاد جعفر نميري انقلابًا عسكريًا في 1969 بدعم من الضباط الأحرار، وأنهى التجربة الديمقراطية الثانية.
النتيجة: أدى انقلاب نميري إلى حكمٍ عسكريٍّ استمر 16 عامًا، شهد خلالها السودان تحولاتٍ سياسيةً كبرى، من الاشتراكية إلى الإسلاموية، لكن الدولة ظلت ضعيفةً ومهزوزةً.
3. *الديمقراطية الثالثة (19851989) وانقلاب البشير*
بعد الإطاحة بجعفر نميري عبر انتفاضة أبريل 1985، عاد السودان إلى الحكم الديمقراطي بانتخاباتٍ حرةٍ عام 1986، لكن الحكومة المدنية برئاسة الصادق المهدي واجهت تحدياتٍ كبيرةً.
*أسباب سقوطها:*
استمرار الحرب الأهلية في الجنوب وتصاعد التوترات الأمنية.
تدهور الاقتصاد وزيادة الفقر والتضخم.
الصراعات الحزبية وضعف الأداء الحكومي.
تدخل الجيش، حيث قاد عمر البشير انقلابًا عسكريًا في 1989 بدعم من الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي.
النتيجة: استمر حكم البشير 30 عامًا، رسَّخ خلاله الحكم الاستبدادي وأضعف مؤسسات الدولة المدنية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية.
*كيف عطلت الانقلابات بناء الدولة؟*
1. *ضربت فكرة الديمقراطية من جذورها*
كل انقلابٍ جعل السودانيين يفقدون الثقة في الديمقراطية، إذ أصبحت الديمقراطية مجرد مرحلة انتقالية بين انقلابين بدلًا من أن تكون نظام حكمٍ مستدامًا.
2. *رسَّخت الحكم الفردي والديكتاتورية*
بمجرد وصول العسكر إلى السلطة، كانوا يُلغون الدساتير، ويقمعون الأحزاب، ويعطلون الحريات، مما أدى إلى انهيار النظام السياسي وأضعف مؤسسات الدولة.
3. *منعت بناء مؤسساتٍ مدنيةٍ قوية*
الانقلابات عرقلت تطور المؤسسات المدنية، فلم يتم بناء جهازٍ قضائيٍّ مستقلٍّ، ولا جهازٍ إداريٍّ فعالٍ، ولا اقتصادٍ قويٍّ. وبدلًا من ذلك، تحولت الدولة إلى أداةٍ لخدمة الأنظمة العسكرية.
4. *أدت إلى أزماتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ متكررة*
مع كل انقلابٍ، يدخل السودان في مرحلةٍ جديدةٍ من العزلة الدولية، وتدهور الاقتصاد، وانعدام الاستقرار، مما يجعل فرص التنمية وإعادة الإعمار شبه مستحيلة.
*كيف يمكن كسر هذه الدائرة؟*
لكسر حلقة الانقلابات والديمقراطيات الهشة، يحتاج السودان إلى:
1. *إصلاح المؤسسة العسكرية*
وضع الجيش تحت سيطرةٍ مدنيةٍ حقيقيةٍ.
منع الضباط من التدخل في السياسة عبر قوانين صارمة.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بحيث تخدم الدولة وليس السلطة.
2. *إعادة بناء الأحزاب السياسية*
تطوير برامج سياسية واضحة تخاطب قضايا المواطن بدلاً من التركيز على المصالح الضيقة.
منع التلاعب بالأحزاب من قبل النخب التقليدية.
دعم الأحزاب الجديدة والشبابية لتقديم بدائل سياسية جديدة.
3. *ترسيخ ثقافة الديمقراطية*
نشر الوعي بأهمية المشاركة السياسية عبر الإعلام والتعليم.
تفعيل منظمات المجتمع المدني لدعم الحريات والديمقراطية.
تحصين مؤسسات الدولة بحيث لا تنهار مع أي انقلابٍ جديد.
4. *دستورٌ دائمٌ لا يتغير مع كل انقلاب*
وضع دستورٍ يعكس التنوع السوداني، ويكون محميًا من التعديلات السياسية.
جعل المؤسسة العسكرية خاضعةً لنظامٍ قانونيٍّ واضحٍ يمنعها من التدخل في السياسة.
*خاتمة*
الديمقراطية في السودان لم تفشل لأنها غير مناسبة، بل لأنها لم تُمنح الفرصة الكافية لتترسخ. كلما بدأت تجربةٌ ديمقراطيةٌ، أطاح بها انقلابٌ عسكريٌّ وأعاد البلاد إلى حكم الفرد.
هل السودان اليوم قادرٌ على كسر هذه الدائرة، أم أننا لا نزال نعيش في ظل نفس السيناريو المتكرر؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم.
المصدر: صحيفة الراكوبة