منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، تعرض الأجانب، لا سيما من إثيوبيا وجنوب السودان، لسلسلة من الانتهاكات الجسيمة شملت الاعتقالات، الاحتجاز القسري، والإبعاد التعسفي، مصحوبة بخطاب كراهية رسمي وإعلامي وسوء معاملة في نقاط التجميع والحدود. تعكس الشهادات المباشرة للمرحّلين التجربة الصادمة التي عاشوها، من اقتحام المنازل ليلاً، إلى النقل القسري تحت تهديد العنف، وحرمانهم من أي فرصة للشرح أو الدفاع عن أنفسهم..

كمبالا: التغيير

“كنا نائمين عندما طرقوا الباب بعنف. قالوا: لديكم دقيقة واحدة فقط لجمع أغراضكم. لم يمنحوا لنا أي فرصة لشرح شيء أو إظهار أي أوراق ثبوتية.” بهذه الكلمات وصف أحد المرحلين من حي الحلة الجديدة في الخرطوم تجربة ترحيله القسري”.

شهادات حية عن الترحيل القسري

تقول سيدة من حي الديوم الشرقية: لقد أخذوا زوجي وابني الأكبر، ولم يخبرونا إلى أين. حاولنا الوصول للمفوضية، إلا أن مكاتبها كانت مغلقة.”

فيما روى شاب أُعيد قسرًا إلى إثيوبيا ما حدث عند الحدود قائلاً: “تُركنا تحت أشعة الشمس الحارقة مع جنود لا نعرفهم، ولم يكن هناك أي مسؤول سوداني معنا. فقط حافلات أنزلتنا ومضت”.

شهادة أخرى من سيدة من حي القوز بمدينة الخرطوم، تقول “اتهمونا بأننا نقاتل إلى جانب قوات الدعم السريع. نحن بالكاد نحصل على الطعا. لم يغادر زوجي البيت منذ عام بسبب الرعب.” قدمت سيدة من نقطة التجميع في حي الديم بالخرطوم شهادتها قائلة: “كانوا ينادون على أسماء من قوائم، ولا نعرف من أين حصلوا عليها. من لم يكن لديه ورقة يُقتاد فورًا، وحتى من يحمل بطاقة، لا يُسمح له بالحديث”.

تعكس هذه الشهادات حجم الانتهاكات التي تعرّض لها الأجانب، لا سيما من إثيوبيا وجنوب السودان، منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 وحتى 30 يوليو 2025.

تشير الشهادات إلى حجم الانتهاكات التي تعرّض لها الأجانب، لا سيما من إثيوبيا وجنوب السودان، منذ اندلاع الحرب

وأفاد تقرير صادر عن مركز كادن للعدالة وحقوق الإنسان، بعنوان “أمننة الوجود الأجنبي في السودان”، اطلعت عليه (التغيير)، أن عدد المرحلين قسرًا من مارس إلى يوليو الماضي بلغ ما لا يقل عن 502 شخصًا، شملوا حاملي وثائق قانونية وآخرين فقدوا أوراقهم نتيجة الحرب والتهجير، في ظل الإعادة القسرية، القمع الداخلي، والتحريض الشعبي.

يشمل التقرير توثيق وتحليل سياسات الترحيل القسري والإبعاد الذي تعرض له اللاجئون والمهاجرون، مع رصد الانتهاكات المرتبطة بها.

ويركز جغرافيًا على العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة، حيث سجّلت أغلب الانتهاكات. إضافة إلى تحليل الخطاب الرسمي والإعلامي المصاحب وإبراز مظاهر التمييز.

استند التقرير إلى منهجية متعددة المصادر شملت مقابلات نوعية مع لاجئين ومهاجرين عبر وسطاء ميدانيين أو الهاتف، ومراجعة وثائق رسمية وملفات قضائية، وتحليل محتوى إعلامي ومنصات التواصل الاجتماعي بعد التحقق من مصداقيته، مع الالتزام بالمعايير الأخلاقية وحماية هوية الشهود والمصادر.

سياق حرب أبريل

مع تصاعد النزاع وتدهور مؤسسات الدولة، تحوّل الوجود الأجنبي إلى هدف للحملات الأمنية والإعلامية، حيث اتهمت السلطات السودانية مجموعات من الأجانب بالمشاركة في القتال مع قوات الدعم السريع، فيما أعلن المسؤولون أن الهدف هو تنظيم وجود الأجانب.

غير أن هذا التصعيد يتجاوز الاعتبارات القانونية والأمنية ليعكس توجهًا أيديولوجيًا يسعى لإعادة تعريف الهوية الوطنية على أسس إقصائية، مستهدفًا الأجانب والفئات المستضعفة، ومنح المؤسسة العسكرية غطاء شعبيًا لتعزيز سلطتها الرمزية أمام قوات الدعم السريع.

اتهمت السلطات السودانية مجموعات من الأجانب بالمشاركة في القتال مع قوات الدعم السريع

أشار التقرير إلى أن عمليات الاقتياد جرت بعنف وبدون إشعار مسبق، بينما رافقها خطاب كراهية إعلامي وسياسي حمّل الأجانب مسؤولية أمنية، وحرّمهم من الخدمات الأساسية. وأطلقت سلطات ولاية الخرطوم أولى حملات الترحيل الميداني في أحياء الحلة الجديدة والقوز والديم، ونُقل المرحّلون إلى معسكرات مؤقتة في ولاية القضارف تمهيدًا لإعادتهم لاحقًا إلى الحدود مع إثيوبيا، دون إشعار مسبق. واستمرت الحملات خلال الفترة من مايو حتى يوليو، مع عمليات حصر وتجميع واسعة في عدة أحياء وتنظيم قوافل ترحيل نحو ولايات النيل الأبيض والقضارف وكسلا، في ظل توقف كثير من المؤسسات الحكومية عن تجديد الوثائق بسبب آثار الحرب.

ووفقًا للتقرير، فإن اندلاع الحرب أدى إلى انهيار شامل في مؤسسات الدولة، وتحولت البلاد إلى بيئة شديدة الخطورة على اللاجئين والمهاجرين والأجانب عمومًا.

وسجّل التقرير تدهورًا حادًا في النظامين القضائي والإداري، ما أتاح مجالًا واسعًا لممارسات قمعية وانتهاكات جسيمة.

وفي ظل غياب الرقابة القضائية والمؤسسية، كثّفت الأجهزة الأمنية والعسكرية، بالتعاون مع وزارة الداخلية، حملات الاعتقال والاحتجاز العشوائي والترحيل القسري، مع تفعيل قوانين ومحاكم كانت ملغاة أو معطّلة، مثل محاكم النظام العام، لمحاكمة الأجانب بتهم التزوير أو انتهاء الإقامة، مع حرمانهم من الضمانات القانونية الأساسية.

كما أُعيد بعض الأجانب قسرًا إلى السودان بعد رفض دول ثالثة استقبالهم، وسُجلت حالات تسليم تعسفي إلى بلدانهم، رغم المخاطر الكبيرة التي تهدد حياتهم.

الانتهاكات المرصودة

بدأت العمليات الميدانية في مارس 2025، وشملت أحياء الحلة الجديدة، القوز، والديم، ونُقل المرحَّلون إلى معسكرات مؤقتة في القضارف تمهيدًا لإعادتهم للحدود مع إثيوبيا، دون إشعار مسبق.

في مايو 2025، أعلن والي الخرطوم خطة ترحيل الأجانب المخالفين اعتباراً من 29 مايو، على خلفية مزاعم غير موثقة عن ضلوعهم مع قوات الدعم السريع، مع خطاب رسمي وإعلامي حمّل الأجانب مسؤولية أمنية.

وفي المرحلة الثانية في 29 مايو 2025، شملت عمليات الحصر والتجميع أحياء متعددة، وتنظيم قوافل ترحيل نحو ولايات حدودية، مع توقف الكثير من المؤسسات الحكومية عن تجديد الوثائق.

وفي يوليو 2025، تم اقتياد عشرات الإثيوبيين من حي الديوم الشرقية إلى مراكز تجميع ثم نقلهم خارج البلاد دون إشعار المفوضية. بلغ عدد المرحّلين ما لا يقل عن 502 شخصًا، شملوا حاملي وثائق قانونية وآخرين فقدوا أوراقهم نتيجة الحرب.

حملات وخطاب كراهية

وذكر مركز كادن إن أطراف مرتبطة بالجيش والنظام السابق، اعتمدت خطاب كراهية متصاعد امتد من الإعلام الرسمي إلى المنصات الرقمية والتصريحات السياسية، وتحول إلى ممارسات ممنهجة تضمنت تضييقًا إداريًا، والطرد القسري، وحرمانًا من الخدمات. وقد ساهم انتشار هذا الخطاب في إعادة تعريف الهوية الوطنية وتصوير “الآخر” كعدو داخلي، مهددًا السلم الاجتماعي وواقع الأمان لللاجئين، خاصة في ظل الأزمات المعيشية، كما وضع السودان على مسار تصادمي مع التزاماتها الدولية، بما فيها اتفاقية اللاجئين لعام 1951.

أهمية التوثيق والتوصيات

أكد التقرير أن التوثيق المنهجي لهذه الانتهاكات ومساءلة الفاعلين أولوية ملحّة لضمان حماية اللاجئين والمهاجرين، وأوصى السلطات السودانية بالتوقف الفوري عن جميع عمليات الترحيل القسري والاحتجاز التعسفي المبني على الهوية أو الجنسية، ومراجعة السياسات والإجراءات المتبعة منذ اندلاع الحرب، وضمان توافقها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

التوثيق المنهجي لهذه الانتهاكات ومساءلة الفاعلين أولوية ملحّة لضمان حماية اللاجئين والمهاجرين،

إلى جانب توفير مسارات قانونية واضحة للطعن في قرارات الترحيل أو الاحتجاز، وضمان حق الأفراد، بمن فيهم اللاجئون وطالبو اللجوء، في التمثيل القانوني والحصول على الدعم القانوني، مع حماية وصولهم إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دون قيود.

وشدد على ضرورة تعزيز آليات الرصد والتوثيق العلني لانتهاكات حقوق الأجانب في السودان، وتقديم تقارير دورية مستقلة للضغط على السلطات السودانية لاعتماد آليات شفافة للمساءلة وتوفير الدعم القانوني والإغاثي العاجل للفئات الأكثر عرضة للخطر، مثل الإثيوبيين والإريتريين، مع دعوة الدول المضيفة للاجئين السودانيين إلى تجنب استخدام ملف الأجانب في السودان كأداة للضغط أو الانتقام، والامتناع من سياسات الانتقام أو التمييز.

وأوصى المجتمع المدني المحلي والدولي بتكثيف عمليات التوثيق والرصد الميداني لانتهاكات حقوق الأجانب، وإطلاق حملات إعلامية تسلط الضوء على الانتهاكات الجارية، والدعوة إلى فتح تحقيقات مستقلة ومحاسبة المسؤولين عنها أمام القانون، مع التركيز على تطوير بدائل إعلامية تحترم التنوع والكرامة الإنسانية.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.