من أجل وطن معافى.. لا بد من اصلاح الجيش!!«1»
(يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ)
د. عمر القراي
في يوم 2 سبتمبر 1898م، هزمت جيوش المهدية، في موقعة كرري، شمال امدرمان. وبدأ عهد جديد هو عهد الاستعمار الإنجليزي المصري، الذي استمر حتى يناير 1956م. ولم يكن للمهدية جيش نظامي، بالمعنى الحديث، كما لم يكن هنالك تدريب عسكري ممنهج، كما للجيوش الحديثة. ومع أن الانجليز بدأوا من الوهلة الأولى، في تجنيد السودانيين في شرطة المدن، وشرطة الهجانة، التي تجوب البلاد بالإبل، إلا أن موضوع إنشاء جيش نظامي، تأخر عقدين من الزمان. على أن تجربة المدرسة الحربية المصرية، نقلت الى السودان، فأنشأت المدرسة الحربية بالخرطوم. ورغم أن الاشراف عليها كان بواسطة الانجليز، إلا أن المدربين، الذين يتعاملون مباشرة مع الطلاب، كان جلهم من المصريين. ولقد أثر هؤلاء، بالإضافة الى الأجواء السياسية، ونشاط حركة اللواء الأبيض، في خلق عقيدة للعسكريين السودانيين، تقوم على الولاء لمصر. فقد نشأت اولاً جمعية الاتحاد السوداني عام 1920 م. وكان مؤسسوها هم: عبيد حاج الأمين، وتوفيق صالح جبريل، ومحي الدين أبو سيف، وإبراهيم بدري، وسليمان كشة. وقد تأثر مؤسسي الجمعية بالحركة الوطنية المصرية، لا سيما ثورة 1919م، وتبنت الجمعية شعارات وحدة مصر والسودان تحت الملك فؤاد، واستقلالهما عن الانجليز. وكانت ترى أن السودان لا ينفصل عن مصر بأي حال من الأحوال. ظهر علي عبد اللطيف، وهو ضابط خريج المدرسة الحربية، في المسرح السياسي، لأول مرة، حين كتب مقال سماه ” مطالب الأمة السودانية” في مايو 1922م وسلمة لرئيس تحرير جريدة الحضارة. ولقد طالب في ذلك المقال بحق السودانيين في حكم أنفسهم، والاتحاد مع مصر. وأتهم الإدارة البريطانية بالسعي لفصل السودان عن مصر. كما هاجم نزع أراضي المواطنين لإنشاء مشروع الجزيرة. ورغم أن المقال لم ينشر، لأن المخابرات أخذته من مكتب الجريدة، إلا أنه تم القبض على علي عبد اللطيف، وقدم للمحاكمة في 14 يونيو 1922م بتهمة اثارة الكراهية ضد الحكومة. وحكم عليه بالسجن لمدة عام، وفصل من الجيش. وبعد خروجه من السجن، تواصل مع عدد من السودانيين، وانضم اليه أعضاء جمعية الاتحاد السوداني، وكونوا جمعية اللواء الأبيض في مايو 1924م، وأصبح علي عبد اللطيف رئيسها. قامت جمعية اللواء الأبيض بإرسال برقية في 14 يونيو 1924م، الى البرلمان المصري، بمناسبة افتتاحه، وتكوين حكومة سعد باشا زغلول جاء فيها (نحن المجتمعون هنا من أهالي السودان نتقدم بإخلاصنا وولائنا لصاحب الجلالة المليك المفدى ونشارككم في هذا العيد السعيد ولا نخشى الوعد والوعيد ولا نرضخ للنار والحديد) ووقع على هذه البرقية أعضاء الجمعية الخمسة المؤسسين. وفي 23 يونيو 1924م نظمت جمعية اللواء الأبيض، أول مظاهرة بالخرطوم، وكانت شعاراتها تهاجم الانجليز، وتنادي بوحدة مصر والسودان، وتشيد بسعد زغلول. وقد فرقها البوليس بالعصي، وتم القبض على قادتها. ولما انتشرت هذه المظاهرات في عطبرة وبورتسودان وكوستي ومدني والأبيض وملكال، وكانت تردد هتافات “تحيا مصر و” يحيا ملك مصر والسودان” و “يحيا سعد زغلول”، تم القبض على علي عبد اللطيف في 4 يوليو 1924م، وحكم عليه بالسجن ثلاثة سنوات مع الاعمال الشاقة. وفي 9 أغسطس قام طلبة المدرسة الحربية، وهم يحملون سلاحهم، بمظاهرة جابت شوارع الخرطوم. ورغم أن عدد المتظاهرين قد كانوا 51 سودانياً، إلا أنهم كانوا يحملون العلم المصري. وكانوا يهتفون بحياة ملك مصر والسودان، واستقلال وادي النيل، وحياة سعد زغلول. وقد سارت المظاهرة الى منزل علي عبد اللطيف، وأدت التحية العسكرية، ثم ذهبت الى سجن كوبر، حيث كان معتقلاً، وأدت التحية، وأطلقت عيارات نارية في الهواء. ولم تتعرض الإدارة البريطانية، لطلاب المدرسة الحربية، ولكن عندما رجعوا الى ثكناتهم، وجدوها محاصرة بقوات بريطانية. وطلب منهم تسليم سلاحهم، وبعد تدخل وساطات من شخصيات سودانية، سلموا سلاحهم وقبض على بعضهم.
في 19 نوفمبر 1924م، اغتيل السير لي ستاك حاكم عام السودان بالقاهرة. وبالرغم من اشادة جمعية اللواء الأبيض، بحزب الوفد وزعيمه سعد زغلول، إلا أن الصحف المصرية المؤيدة لحزب الوفد، أوحت بأن الجناة لابد أن يكونوا سودانيين، وأنهم فعلوا ذلك بسبب سياسة الانجليز، التي كانت تريد التفريق بين أبناء وادي النيل. ولكن الانجليز حملوا المسؤولية لسعد زغلول، وحكومته، وطالبوه بالاعتذار، ودفع غرامة قدرها نصف مليون جنيه، وإصدار أوامر عاجلة بارجاع الضباط المصريين من السودان. ومع أن سعد وافق على بعض هذه المطالب، إلا أنه تحت إصرار الانجليز عليها جميعاً، اضطر الى تقديم استقالته، وتولى رئاسة الوزراء أحمد زيور، الذي قبل كل الشروط، بما فيها سحب القوات المصرية، وطرد الموظفين المصريين. وجه حاكم عام السودان بالإنابة، المستر هدلستون، تعليمات الى وحدة الجيش المصري بالانسحاب الى مصر. ولكن الضباط والجنود المصريين رفضوا تنفيذ الأوامر. وقالوا إنهم لن ينسحبوا، ما لم يستلموا أمراً مباشراً من وزير الحربية المصرية، وهددوا بضرب القوات البريطانية إذا اقتربت منهم. ولقد اتفق الضباط المصريون والضباط السودانيون، أن يبدأ السودانيون الثورة ضد الانجليز، فإذا انصرفت الأنظار إليهم، وواجهتهم القوات البريطانية، باغتت المدفعية والأورطة 3 مشاة المصرية، القوات البريطانية من الخلف. بناء على ذلك، قادت الفرق السودانية في الخرطوم، وأمدرمان، وتلودي، التمرد وخرجت في مظاهرات تضامناً مع الجيش المصري، وإيذاناً بشق عصا الطاعة ومواجهة الانجليز. وفي يوم 27 نوفمبر تحركت فصيلتان من الأورطة الحادية عشر السودانية، كانتا مكلفتان بالقيام بالحراسة، بعد جلاء القوات المصرية. وكانت قيادة هاتين الفرقتين الملازم أول عبد الفضيل الماظ، والملازم ثاني سيد فرح. ولما وصلوا مدرسة ضرب النار بالخرطوم، انضم اليهم الملازم أول سليمان محمد، والملازم ثاني ثابت عبد الرحيم، والملازم ثاني علي محمد البنّا، والملازم ثاني حسن فضل المولى. فاقتحموا مخزن الذخيرة، واخذوا أربعة مدافع مكسيم، وعدد من صناديق الذخيرة، ثم واصلوا للانضمام للقوات المصرية في الخرطوم بحري. ولقد سار الضباط السودانيون الذين كانوا بمدرسة ضرب النار بالخرطوم، نحو الخرطوم بحري، وكانوا يظنون أن القائم مقام احمد رفعت قائد المدفعية، سيطلق المدفعية المصرية على الطابية البريطانية، فإذا تمكن من اسكاتها، يصبح من السهل عليهم اجتياح الفرق البريطانية، واسقاط الخرطوم. ولكن القوات البريطانية علمت بأمرهم، وسدت عليهم الطرق، وبدأوا يتبادلون معها ضرب النار، الذي استمر من العصر حتى المساء. ولم تتدخل القوات المصرية، كما هو الاتفاق، وتركوا الضباط السودانيين، الذين تضامنوا معهم بسبب ترحيلهم، يواجهون وحدهم الجيش البريطاني، مما يعد خيانة عظمى. وحين نفدت ذخيرتهم، دخل عبد الفضيل ألماظ، ومعه عدد من الضباط والجنود، الى مستشفى الجيش المصري. وفي يوم 28 نوفمبر وبعد مقاومة شرسة أحضرت القوة البريطانية مدفعاً ضخماً، وهدت المستشفى. ووجد عبد الفضيل ألماظ تحت الأنقاض وهو ممسك بمدفعه، وحولة جثث أربعة عشر ضابطاً، وثلاثة عشر جندياً. وهكذا انتهت ثورة 1924م. وفي نفس اليوم وصل الخرطوم البكباشي أمين هيمن، يحمل رسالة وزير الحربية المصري، صادق يحى باشا، الى ضباطه وجنوده، يأمرهم بالإذعان الى قرار حاكم عام السودان، والانسحاب الى مصر. فأذعن المصريون وانسحبوا في يومي 29 و30 نوفمبر، وأكتمل انسحابهم في 2 ديسمبر 1924م . وقامت الإدارة البريطانية بإغلاق المدرسة الحربية، ولم تفتحها إلا تحت اسم الكلية الحربية في عام 1948م. ولكنها في عام 1925م أنشأت قوة دفاع السودان، كنواة للجيش السوداني، وسعت الى تغيير عقيدة الجنود السودانيين من الولاء للمصريين الى الولاء للبريطانيين. ورغم انسحاب الجيش، بقي الإداريون المصريون في مناصبهم يشاركون الانجليز حكم السودان.
وطوال فترة الاستعمار الإنجليزي المصري، كانت بريطانيا تستغل قوة دفاع السودان، في كل حروب الحلفاء ضد النازيين، في معارك لا مصلحة فيها للشعب السوداني. فإذا قتل افراده لا تعوض اسرهم وإذا نجح في حروبه كانت تعد انتصارات للإدارة البريطانية. ولم يسجل التاريخ لقوة دفاع السودان تمرداً على الحكومة الاستعمارية، وإنما كانت تنفذ أوامر الحكومة، ولو كانت ضد الوطنيين من السودانيين، الذين قاوموا الاستعمار.
في عام 1946م قاد الأستاذ محمود محمد طه، ثورة رفاعة، ضد الانجليز، في حادثة الخفاض الفرعوني المشهورة، وخطب في مسجد رفاعة، وقاد المصلين، وعبروا النيل الأزرق بالمراكب، وحاصروا سجن الحصاحيصا، حتى أخرجوا “القابلة”، التي كانت مسجونة هناك، وعادوا بها الى رفاعة. لم ترسل الحكومة البريطانية الشرطة للقبض على من اسمتهم مثيري الشغب، وإنما قامت قوة دفاع السودان، بإرسال فرقة مدججة بالسلاح، طوقت مدينة رفاعة، واقتحمت المنازل، وقبضت على المواطنين الثوار العزل. وكان الشعب السوداني، متضامناً مع ثورة رفاعة، لكن العسكريين في قوة دفاع السودان، أطاعوا أوامر المستعمر، وروعوا مواطنين أبرياء، وقبضوا على مناضلين شرفاء، وكأنهم مجرمين. وكان أحرى بهم أن يتمردوا، ويرفضوا التدخل في حادثة شغب، هي من مهام الشرطة. ولو أنهم فعوا، لكان انحيازاً لأول ثورة وطنية، ضد الاستعمار، وربما كان عصيانهم دافعاً للشعب كله نحو الثورة، والخلاص من المستعمر. ولكن قوة دفاع السودان، لم يكن لديها عقيدة إنسانية، تربطها بقيم أخلاقية، ولم تتلق أي تربية وطنية، تربطها بتراب هذا البلد، وأهله الطيبين، البسطاء.. واستمر على ذلك الجيش، وكافة القوات النظامية الحاملة للسلاح، والتي سنرى كيف أنها عبر تاريخها، كانت تستغل من الدكتاتوريين المستبدين، ضد أبناء شعبها الذي يصرف عليها من حر ماله.
19 فبراير 2024م
المصدر: صحيفة التغيير