منذ متى صار الاشتراك في الظلم يعني الاشتراك في جُرم؟

خالد كودي
ظل السودان غارقًا في الصراعات المستمرة منذ نشأته، حيث تمارس النخب السياسية انتقائية فاضحة في تعريف الظلم والمساءلة، متجاهلةً دورها التاريخي في إنتاج وإعادة إنتاج أنظمة القهر والاستبداد. على مدى عقود، احتكرت النخب المركزية السلطة، مستغلةً الدولة لخدمة مصالحها الضيقة، وقامت بإقصاء كل من عارضها، متجاهلةً أصوات الملايين من السودانيين الذين عانوا من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
واليوم، بعد أن وقّعت الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، إلى جانب قوى سياسية وحركات كفاح مسلح أخرى، على الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي مع قوات الدعم السريع، تسعى هذه النخب إلى خلق سردية مضلِّلة تحاول من خلالها تحميل جميع الموقعين على الميثاق مسؤولية الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، خاصةً بعد اندلاع الحرب بينها وبين القوات المسلحة السودانية في 15 أبريل 2023. هذه المقاربة الضيقة تتجاهل تعقيدات الواقع السوداني وطبيعة التحالفات، وتسعى إلى طمس الحقيقة لصالح حسابات سياسية ضيقة هدفها النيل مما تم التوقع عليه.
بالإضافة الي إن هذا التفسير الانتقائي للصراع يعتمد على التجارب الفردية المباشرة مع الحرب، وما نتج عنها من موت وتشريد ونزوح ومعاناة إنسانية هائلة، دون أن يدرك هؤلاء أو يكترثوا لحقيقة أن هذه المآسي ليست جديدة، بل هي واقع فرض على ملايين السودانيين لعشرات السنين بسبب سياسات الحروب والإقصاء التي مارستها الدولة المركزية.
في السودان، هناك أجيال كاملة وُلدت ونشأت في معسكرات اللجوء والنزوح، فاقدةً للوطن والأسرة والكرامة، وقد تجاوز العديد منهم العقد الثالث من العمر دون أن يعرفوا وطناً سوى المخيمات ومنظمات الإغاثة الدولية. وبينما يمكن تفهُّم الألم الذي خلفته الحرب لدى من عايشها، إلا أن الحروب لا تفرّق بين الضحايا، كما أن العدالة لا يمكن اختزالها في تجارب فردية دون اعتبار لملايين المهمشين الذين عانوا لعقود طويلة تحت سيطرة النخب المركزية وسياساتها القمعية.
ويبقى السؤال المنطقي هنا: متى صار التحالف علي رفع الظلم يعني الاشتراك في جُرم؟ لطالما كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، والجيش الشعبي لتحرير السودان نموذجًا لقوة ثورية ملتزمة بالدفاع عن حقوق الإنسان، لم يكن هدفها الاستبداد أو القمع، بل كانت استجابتها لحمل السلاح نتاجًا مباشرًا لظلم تاريخي مستمر مارسته النخب السياسية المركزية ضد الشعوب المهمشة.
لم تشن الحركة الشعبية حروبًا عدوانية ضد المدنيين في أي منطقة من السودان، بل خاضت نضالها كدفاع مشروع عن حقوق السودانيين الذين تعرضوا للقمع والتهميش الممنهج على مدى عقود.
هذا السجل الأخلاقي المتميز ليس مجرد إرث تاريخي، بل يجب أن يكون مرجعية ملهمة لكل القوات المنضوية تحت الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي، بما في ذلك قوات الدعم السريع، في إطار التحول نحو بناء جيش وطني جديد، ملتزم بالمبادئ الإنسانية والانضباط العسكري.
لم يكن الجيش الشعبي لتحرير السودان مجرد قوة عسكرية تسعى للبقاء، بل كان منذ تأسيسه قوة ملتزمة بالقانون الدولي الإنساني، واضعًا معايير أخلاقية صارمة تميزه عن المليشيات والجيوش غير المنضبطة.
لم يستهدف المدنيين، ولم يمارس العقوبات الجماعية، ولم يرتكب جرائم حرب، بل حرص على الالتزام باتفاقيات جنيف والقوانين الحربية وفقًا لدستور الحركة الشعبية ووثائقها الملزمة. وقد فرضت هذه القوانين تدريبًا صارمًا لمقاتلي الجيش الشعبي على مبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعد الاشتباك العادل، لضمان حماية المدنيين والأسرى، وإرساء نموذج مسؤول لقوة عسكرية منضبطة.
هذا النهج هو ما يجب أن يشكل الركيزة الأساسية لأي عملية تحول عسكري في السودان، حيث لا يمكن بناء دولة جديدة عادلة إلا عبر جيش يحترم حقوق الإنسان، ويلتزم بالعدالة، ويعمل على إنهاء عقود من العنف والانتهاكات التي رسختها الدولة المركزية.
تحظر قوانين الحركة الشعبية بشكل قاطع أي اعتداء على حقوق وممتلكات المواطنين، وتجرم أي انتهاكات بحق الأسرى، بما في ذلك التعذيب أو الإهانة أو استخدام العقوبات الجماعية، مما جعل الجيش الشعبي نموذجًا فريدًا في الانضباط العسكري في السودان.
وفي المقابل، نجد اليوم بعض القوى والشخصيات السياسية الفاشلة التي لطالما تواطأت مع أنظمة القمع، أو صمتت عن جرائمها، بل شاركت فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحاول تلفيق الادعاءات ضد الحركة الشعبية تحديدا، زاعمةً أنها شريكة تجاوزات قوات الدعم السريع، لمجرد توقيعها على ميثاق يهدف إلى إنهاء الظلم ووضع حد لدوامة الجرائم والتجاوزات التي ظل المواطن السوداني، لا سيما في مناطق الهامش، يدفع ثمنها لعقود طويلة. تفكيك بنية القهر وبناء دولة تحترم الإنسان: الجرائم والانتهاكات التي شهدها السودان من القوات المسلحة وما صنعتها من مليشيات لم تكن أفعالًا عشوائية، بل كانت نتاج ثقافة وتعاليم دولة عنصرية لم تمنح أي قيمة فعلية لحياة مواطنيها، خاصة أولئك القادمين من الأطراف المهمشة. هذه البنية المتجذرة من الظلم القائم على العنصرية هي ما يسعى التحالف التأسيسي إلى تفكيكه جذريًا، عبر تأسيس جيش وطني مهني جديد، خاضع للقوانين الإنسانية، بعيدًا عن الولاءات السياسية أو العرقية أو القبلية.
مواقف الحركة الشعبية حقائق ثابتة لا تخضع للمزايدات: إن تاريخ ومواقف الحركة الشعبية لتحرير السودان ليست موضعًا للمزايدات أو التزوير، بل هي حقائق راسخة، قائمة على ممارسة مسؤولة للسلطة العسكرية واحترام حقوق الإنسان، لا يمكن لأي جهة أن تنكرها أو تطمسها، مهما حاولت ذلك. التزام الحركة الشعبية بهذا النهج لا ينبع من الحاجة إلى إرضاء أيا كان أو الاستجابة لضغوط سياسية من أيا كان، بل هو جزء أصيل من رؤيتها لسودان جديد قائم على العدالة والمساواة، حيث لا تُستخدم القوة العسكرية إلا في إطار القانون وضمان حماية الإنسان السوداني.
ازدواجية المعايير والتضليل السياسي: كيف تحاول النخب السياسية تزييف الحقائق؟ لطالما كانت النخب السياسية في السودان جزءًا من معادلة القمع والاستبداد، سواء من خلال الممارسة الفعلية، أو التواطؤ بالصمت، أو التلاعب بالخطاب السياسي لتبرير الظلم والهيمنة.
واليوم، تحاول هذه النخب إعادة كتابة التاريخ، وتصوير نفسها كحامية للديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما تهاجم الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، ليس لممارساتها، بل لمواقفها المبدئية ومشروعها الوطني الذي يهدد مصالحهم التاريخية بناء سودان على أسس جديدة.
ازدواجية المعايير: النخب بين التواطؤ والمزايدة السياسية: لم تكن القوى السياسية السودانية، سواء في الحكم أو المعارضة، بمنأى عن المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في تكريس الظلم. لقد ساهمت هذه القوى بدرجات متفاوتة في إعادة إنتاج نظم القهر والاستبداد، من خلال السياسات الإقصائية، والتحالفات مع الأجهزة القمعية، وتبرير العنف تحت شعارات زائفة مثل “الحفاظ على وحدة البلاد، بسط هيبة الدولة” أو “استقرارها”. النخب الإسلامية لم تكتفِ بتوفير الغطاء الأيديولوجي للعنف المنظَّم، بل كانت المهندس الفعلي لإنشاء قوات الدعم السريع وغيرها من المليشيات، حيث وظَّفتها كأداة لحروب إبادة في الهامش، وسمحت لها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بينما كانت تروج للجيش السوداني كـ”حارس شرعي للدولة”، رغم تورطه في نفس الجرائم.
النخب غير الإسلامية، التي تدّعي اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان وحرصها عليه، لم تعارض قوات الدعم السريع إلا بعد أن انقلبت عليها موازين القوى، لكنها في السابق لم تتردد في التحالف معه، واعتبرته شريكًا سياسيًا وقدمته كمسؤول عن ملف السلام في السودان.
واليوم، بعد توقيع الحركة الشعبية على الميثاق التأسيسي والدستور كخطوة نحو سلام شامل، تحاول هذه القوى مهاجمتها، ليس لأنهم يعترضون على فكرة التحالف مع قوات الدعم السريع، بل لأنهم يرون في مشروع السودان الجديد الأساس لتأسيس سودان علماني ديمقراطي لامركزي ومدني تهديدًا مباشرًا لمصالحهم وهيمنتهم. التضليل السياسي ومحاولات التشويه، والحقائق في مواجهة الدعاية: تعمل بعض القوى السياسية على تشويه صوة ومواقف الحركة الشعبية عبر حملات تضليل، مدعية أن توقيعها على الميثاق التأسيسي مع قوات الدعم السريع يعني التواطؤ مع تجاوزاتها.
لكن هذا الادعاء باطل قانونيًا وأخلاقيًا، خاصة أن هذه النخب نفسها تحالفت سابقًا مع ذات القوى العسكرية، وشاركتها في حكومات متعاقبة.
عموما، الكيانات المعنية تحالفت علي ماهو موقع عليه في الوثيقتين وحسب، وليس في أي منهما شرعية لاي تجاوز لحقوق الانسان، وهذا ما يهم. لماذا لم تتحمل هذه الأحزاب مسؤولية الجرائم في دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق؟ لماذا لم تُحاسب القوى السياسية التي دعمت الجيش والدعم السريع أثناء قمع المدنيين في الخرطوم؟ وإذا كانت هذه النخب صادقة في التزامها بحقوق الإنسان، لماذا لم تطالب بمحاسبة الجيش السوداني على جرائمه الممتدة لعقود؟ الحركة الشعبية لم توقّع لتبرئة أي طرف، بل تبنت مسار سياسي شامل وناضج لإنهاء الحروب في السودان، وليس فقط في المناطق التي تهم النخب المركزية.
الحركة الشعبية تمثل ملايين الضحايا والناجين الحقيقيين للنظام القمعي العميق، وتسعى إلى سودان جديد يقوم على العدالة والمساواة، لا على الانتقائية والمزايدات السياسية وتكرار التجارب الفاشلة. إخفاق مثقفي المركز والنخب السياسية التواطؤ المستمر: لم يكن مثقفو المركز وساسته بمنأى عن التواطؤ مع الأنظمة القمعية، بل ظلوا عاجزين عن تقديم أي رؤية حقيقية للتغيير، مكتفين بتدوير المجرب، وبالاعتماد على القوى الثورية الفاعلة، ثم تسلق الإنجازات لاحقًا.
لم يكن رفضهم للأنظمة القمعية نابعًا من موقف مبدئي ضد الظلم، بل كان مرتبطًا بصراعهم الأيديولوجي مع بعض مكونات هذه الأنظمة القمعية. وقد روجوا لسردية “التخلص من الإسلاميين كفيل بحل كل مشاكل السودان”، متجاهلين أن الدولة المركزية المختلة هي التي أفرزت الإسلاميين أنفسهم.
موقفهم الرافض للميثاق التأسيسي ليس بسبب وجود قوات الدعم السريع فيه، بل خوفًا من فقدان احتكارهم للسلطة ورفضًا لمشروع وطني أكثر عدالة وشمولًا. إن هذه النخب، التي تدعي اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان، هي ذاتها التي سكتت طويلًا عن جرائم الجيش والدعم السريع عندما كان يخدم مصالحها الايدولوجية والسياسية.
الميثاق التأسيسي: خطوة نحو العدالة لا جريمة تُدان:
لم يكن توقيع الميثاق التأسيسي خطوة تبريرية، بل كان فعلًا تاريخيًا لإعادة بناء السودان على أسس المواطنة المتساوية، وإنهاء دوامة الحروب التي مزقت البلاد لعقود، ومن يرفض هذا الميثاق مطالبٌ بطرح بديل عملي لإنهاء الحرب، بدلًا من الاكتفاء بالمزايدة السياسية والتخوين. الحركة الشعبية لم توقّع الميثاق لحماية أي طرف عسكري، بل فعلت ذلك انطلاقًا من رؤيتها لدولة قانون تحاسب الجميع دون استثناء، بما في ذلك الجيش وقوات الدعم السريع وكل من تورط او سيتورط في الجرائم ضد السودانيين.
العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية، فمن يطالب بمحاسبة قوات الدعم السريع فقط، دون القوات المسلحة السودانية، التي ظلت محمية من المحاسبة رغم تاريخها الطويل في جرائم الحرب، فإنه لا يسعى لتحقيق العدالة، بل لحماية امتيازات سياسية قديمة.
وعليه فان المسؤولية الحقيقية ليست في توقيع الميثاق التأسيسي لما حوي، بل في مواجهة النخب التي تواطأت لعقود في صناعة الخراب، ثم رفضت وترفض أي مشروع جاد لإنهاء الأزمة.
العدالة لا تتجزأ، المحاسبة يجب أن تشمل الجميع: الميثاق التأسيسي ليس جريمة بناء على تاريخ بعض ممن وقع عليه، بل محاولة تاريخية جادة للخروج من دوامة تقاطعات الاضطهاد والعنف التي استمرت لعقود في السودان.
النخب التي تحاربه اليوم هي نفسها التي صنعت وحمت أنظمة الاضطهاد والقمع، وهي آخر من يحق له الحديث عن العدالة وحقوق الإنسان.
العدالة لا تتحقق عبر انتقائية المحاسبة، بل يجب أن تشمل كل من ارتكب الجرائم ضد الشعب السوداني، دون استثناء أو تحيز، ولهذا قالت الوثائق بالمحاسبة والعدالة التاريخية.
الظلم في السودان لم يكن مجرد فعل عسكري، بل كان مشروعًا ايدولوجيا وسياسيًا متكاملًا، شاركت فيه النخب المركزية، وهي تحاول الآن تبرئة نفسها وتحميل الحركة الشعبية مسؤولية كل شيء، لكنها لن تنجح في ذلك. السودانيون يعرفون جيدًا من وقف إلى جانبهم، ومن وقف ضدهم، ومن حمل السلاح دفاعًا عنهم، ومن استخدم الدولة كأداة لقمعهم. والتاريخ لا ينسى.
المصدر: صحيفة الراكوبة