منبر جدة.. معادلات السياسة وحسابات الميدان
لازال منبر جدة للتفاوض بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، هو نافذة الأمل الأبرز لإنهاء كابوس حرب 15 ابريل، غير أن معادلات السياسة وحسابات الميدان تلقي بظلالها على تقدم المباحثات.. فما هي المشكلة؟
التغيير الخرطوم: سارة تاج السر
مع انهيار كل جولة من محادثات منبر جدة للتفاوض بين الفرقاء العسكريين في السودان (الجيش والدعم السريع)، يتبادل الجانبان الاتهامات، بعدم التزام كل طرف بما تم التوافق عليه.
ومنذ السادس من مايو الماضي، ترعي الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، مفاوضات جدة لوقف القتال الذي تفجر بين الطرفين في 15 ابريل الماضي بالعاصمة الخرطوم ومدن أخرى، والتوصل إلى هدنة حقيقية توقف إطلاق النار لفترة طويلة، ورغم الهدن الموقعة بين طرفي النزاع في أوقات سابقة إلا أن خروقات متبادلة وقعت منهما.
ولازال منبر جدة هو نافذة الأمل الأبرز لإنهاء كابوس حرب 15 ابريل، غير أن معادلات السياسة وحسابات الميدان تلقي بظلالها على تقدم المباحثات.. فما هي المشكلة؟
شكوك متبادلة
في منتصف يوليو الماضي، انخرط ممثلو الجيش والدعم السريع، في محادثات غير مباشرة بعد تعليق المفاوضات لشهر ونصف، إلا أن التفاوض تعثر في السادس والعشرين من ذات الشهر، وعاد وفد القوات المسلحة المفاوض الخميس الماضي للسودان، بينما ظل وفد الدعم السريع بجدة.
وقال الجيش في بيان بتاريخ 27 يوليو الماضي، إن الوفدين تباحثا حول مسودة وقف للعدائيات تم التوافق فيها على كثير من النقاط، إلا أن الخلاف حول بعض النقاط الجوهرية ومن بينها إخلاء المتمردين لمنازل المواطنين بكافة مناطق العاصمة وإخلاء مرافق الخدمات والمستشفيات والطرق، أدى إلى عدم التوصل لاتفاق وقف العدائيات، ونتيجة لذلك عاد إلى السودان للتشاور، مع الاستعداد لمواصلة المباحثات متى ما تم استئنافها بعد تذليل المعوقات.
بالمقابل اتهمت قوات الدعم السريع، في بيان بذات التاريخ، القوات المسلحة بعدم الالتزام والتقيد بشروط وقف إطلاق النار الذي تم التوقيع عليه وفشل تحقيق الأهداف المرجوة منه “بسبب تعدد مراكز اتخاذ القرار داخل “الانقلابيين”، وذكر أن وفد “الانقلابيين “متحكم فيه من قبل قيادات المؤتمر الوطني الذين يديرون التفاوض من الخلف حسب البيان.
وأكد البيان، أن وفد الجيش المفاوض كان منقسماً ومتنافراً حيث يمثل كل عضو فيه جهة بعينها وينطلق كل فرد فيه من موقف مختلف عن الآخر.
ووصف ما ذكره الجيش عن تواجد قوات الدعم في المستشفيات بـ”الإدعاءات الكاذبة”، واعتبرها محاولة لفك الحصار عن المقرات العسكرية التي تتواجد داخل المناطق المأهولة بالسكان خاصةً القيادة العامة وإدخال الإمدادات الغذائية والوقود والدواء لها.
خبير عسكري: خروج الدعم السريع من منازل المواطنين والمستشفيات ومناطق الخدمات أبرز عقبات التفاوض
عقبات
ووفقا لمراقبين، فإن مثل هذه التصريحات قد تمثل أسلوباً تفاوضياً، لكنها توضح أيضاً الهوة الكبيرة بين الطرفين، مما يطرح بعض التساؤلات بشأن السبب في المراوغة، وما هي أهم العقبات التي تواجه المنبر السعودي/ الأمريكي؟ هل لتعدد مراكز القرار داخل الجيش فعلاً، أم عرقلة من فلول النظام السابق، أم رغبة من القوات المسلحة في ترجيح كفة القتال، للتفاوض من مركز قوة؟.
واعتبر المحلل والخبير العسكري د. أمين إسماعيل مجذوب، أن منبر جدة منذ بدايته، لم يخاطب جذور المشكلة من الناحية السياسية وركز على الناحية الإنسانية فقط، لذا كل الهدن التي تم إعلانها والبالغ عددها حوالي 12 هدنة، لم يتم الالتزام بها خاصة من جانب الدعم السريع.
وأوضح في حديثه لـ«التغيير»، أن الحكومة سحبت وفدها مرتين، وصدر قرار بتعليق المفاوضات مرة ثالثة.
وقال: «يبدو أن لواشنطن خطة جديدة للتعامل مع الأزمة السودانية، بعيداً عن منبر جدة، وربما عرضت على الجانبين وتجري المشاورات حولها»، مستدلاً بتصريح مستشارة وزير الخارجية الأمريكية للقرن الأفريقي، الذي أشارت فيه إلى أن «مفاوضات جدة لا تتوافق مع الخطة الأمريكية».
وذكر إسماعيل أن أهم العقبات الماثلة الآن هي كيفية خروج قوات الدعم من منازل المواطنين والمستشفيات ومناطق الخدمات، حتى لا يصبح وجودها أمراً واقعاً، إلى جانب فتح المسارات والطرق التي توجد فيها ارتكازات تلك القوات، لأنها تعيق تدفق المساعدات الإنسانية والطبية وتمنع فرق الإغاثة وكذلك الفرق الطبية من الوصول للمتأثرين وإلى المشافي المختلفة، إضافة لعمليات السلب والنهب التي تمت لمنازل وممتلكات المواطنين.
ووصف تلك العقبات بالمقبولة والمنطقية، وتمنع القوات المسلحة من الجلوس والتفاوض ما لم يتم إزالتها.
ونفى إسماعيل تعدد مراكز القرار داخل الجيش، وقال: «القوات المسلحة لديها قيادة وقرار موحد من الناحية العسكرية، وأي حديث بنها تتأثر بقوى سياسية أخرى، حديث يجب أن تثبت صحته من قبل مدعيه.
وحول مسألة إمكانية الحسم العسكري فأوضح إسماعيل أن أي صراع عسكري يجب أن ينتهي بتفاوض، بدءاً من الحرب العالمية الأولى والثانية التي انتهت بتفاوض، كذلك حرب إثيوبيا بين الجيش والتغراي، وكذلك الأزمتين الليبية واليمنية.
وتابع: «لابد من التفاوض، لأن الذي يحسم المعركة ميدانياً هو من يفرض شروطه في التفاوض، حسب السوابق التفاوضية في الصراعات المسلحة».
خبير أمني: الجيش يحاول تحسين موقفه التفاوضي بالحسم الميداني لزيادة نطاق سيطرته
الحسم الميداني
من جهته، يرى الخبير الأمني عمر أرباب، أن الجيش يحاول تحسين موقفه التفاوضي بالحسم الميداني لزيادة نطاق سيطرته في العاصمة والمناطق الاستراتيجية ومناطق الاقتتال الأخرى، ولأن الخطوات الأولى في التفاوض تبدأ بوقف إطلاق النار، فحينها سيحتفظ كل طرف بمواقع نفوذه.
واستبعد أرباب في حديثه لـ«التغيير»، وجود تعدد لمراكز اتخاذ القرار داخل القوات المسلحة، ووصف الاختلاف بالتقديرات العسكرية التي تحاول أن تجد إجابات لأسئلة على شاكلة هل التفاوض أفضل أم تحسين موقف الجيش، وماذا إذا زاد الوضع الميداني سوءاً وبدأت المليشيا في السيطرة على مواقع جديدة، وهل تحسين ذلك الموقف، يستحق كل هذه الخسائر والتضحيات، أم لا؟.
واعتبر أن كل هذه الأشياء تخضع لتقديرات القيادة وتبادل وجهات النظر وتخضع أيضاً لقدرة الجيش على الصمود وكسر الحصار المضروب على المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، أو يحاصر فيها القوات المسلحة.
ويرى أرباب أن النظام البالد أو الدولة العميقة يكون تأثيره بالضغط على القيادة من خلال الرأي العام ومشاركة كوادره في الحرب، ولكن تمرير القرارات بصورة فوقية كما يتصور البعض فهي غير ممكنة في هذا التوقيت.
محلل سياسي: إعادة الاستقرار للدولة لا يتأتى دون توافق الشروط الداخلية مع الارتباطات الخارجية
الشروط الداخلية والارتباطات الخارجية
من ناحيته، وصف المحلل السياسي، الخبير الدولي د. راشد محمد علي الشيخ، الطرفين بأنهما منهكين بالحرب وليس من مصلحتهما الاستمرار اكثر، وبالتالي وجودهما على طاولة التفاوض مهم لتحقيق السلام.
وقال لـ«التغيير»، إن الانسحاب بدون سلاح يعني العودة إلى مربع الحياة السياسية، ويتطلب أن تكون القوة العسكرية خارج مسار العملية السياسية، لكنه أكد أن الأمر مرتبط بتعقيدات أخرى داخلية وخارجية مثل المجال الإقليمي وتأثيراته، وأضاف بأن إعادة الاستقرار للدولة لا يتأتى ما لم تتوافق الشروط الداخلية مع الارتباطات الخارجية.
وأشار الشيخ إلى أن الدعم السريع يطلب حالياً غطاءً أو مظلةً دوليةً لضمان خروج آمن، وذلك يعني تقلص المساحات التي يسيطر عليها الأخير، وزيادة رقعة انتشار الجيش.
عموماً، يبدو عصياً الفصل بين ما يجري في الميدان وبين المقترحات والترتيبات السياسية التي يتم الإعداد لها في غرف التفاوض، وسعي كل طرف لتحسين موقفه التفاوضي عبر السيطرة الميدانية، مع الوضع في الاعتبار ضغوط الحلفاء والأصدقاء في الداخل والخارج ورغبة المواطنين في الإسراع بطي صفحة الحرب والعودة لمسار الدولة المدنية.
المصدر: صحيفة التغيير