اخبار السودان

ملحمة أوبريت الشريف زين العابدين الهندي

أولا نترحم على روح الشريف زين العابدين الشريف يوسف الهندي ونسأل الله أن يتقبله في عليين. ثم نرفع أكف الضراعة لروح الأستاذ عبد الكريم الكابلي وندعو الله أن ينزله الفردوس الأعلى من الجنان .
ثانيا أدخل إلى غور هذه الملحمة الشعرية ذات العوالم والمعالم البارزة والملونة نصاً شعبياً طاف البلاد وديانها وسهولها بواديها وحضرها تلالها وكثبانها أنهارها بكل عنفوانها وصخبها وبحارها ، وحتى الأشجار والأطيار نالت حظها من الذكر والتوثيق ، لم يترك الزين شاردة ولا واردة إلا ونصب خيمته في الزمان والمكان وأخرج سحرها من بين أضلعه وفؤاده الذي أكتنز سودان العزة والشموخ كنزاً يسمو فوق كل الصغائر ؛ ولم يترك التاريخ عراكاً وشموخاً في ممالك دانت لها الدنيا وشخصيات كُتِبتْ ورُسِمتْ بماء الذهب ذكرى للذاكرين وعبرة للغافلين . والحديث عن هذا الأوبريت الملحمة ضربٌ من المجازفة خاصةُ فيما يتعلق باللحن الكابلي لأنَّ بحره الشعري سهلٌ ممتنعٌ وشعبيٌ يسهل هضمه وحفظه ومَثَلُه كَمَثلِ الفولكلور السوداني أغاني وصفقة وعرضة وكمبلا وسديري وسيف وسكين ورقصة رقبة وشبّال وبُطان ودلُّوكة وشَتَم وتُمتُم وهلُّم جرّا .
زاد الأستاذ عبد الكريم الكابلي النص الشعري ألقاً وبهاءاً وألبسه ثوب عُرسٍ فخرج على المسرح ملحمةُ تتلفعُ ثوب زفافٍ يزِينُها تاجٌ مُرصَّعٌ بألماسِ العزة وبريق التاريخ ورائحة مهيرة وجسارة الكنداكة. هتفَ لها وهَلّلَ وابتهجَ وذُهِل كلُّ منْ حضر تلك الليلة لِجمالِها وكمالِها.
أنظُر يا رعاك الله ماذا ترى؟وكيف انساك ؟ وكيف انساك وذكراك لي دماهو عروق ..
ومما الهجرة حلت ليهو، لابسك إنت عمة وطوق ..
وعايشك جوا وجدانه ،معايشة الحنين للشوق ..
وممزوج فيك .. ممازجة اللسان للضوقألا ترى الشاعر في انصهارٍ تام مع الوطن الرمز ؟ فالذكرى تجري مجرى الدم في العروق وتمتزج شوقاً في حنين عارم . والنَّصُّ الملحمي مفعمٌ بالصور البلاغية من تشبيهٍ ومجازٍ وكنايةٍ وطباقٍ وغيرِها .

وما بنساك ؛ وما بنساك عشان بطراك في الأزمان ..
قريب منك ، قرابة الحدقة للإنسان ..
وجايل فيك ، جولة الدم علي الوردان ..
وقيمتك عنده ، زي قيمتك معاه زمان ..
يعيشك هضبة ، بتشارف تلال قيسان ..
ويحياك موية في دارفور، تبل عطشان ..
ويديّم فيك من سنار، ترع خزان ..
ويدفق خيره بي عند الرهد بستان ..
ويقول للدندر الغاضب ، كفاك جيشان ..
ويسهر لي وليداتك ، يعشي الحاري والجيعان ..

يا سلام ! كلُّ مقطعٍ يحمل صوراُ بيانيةٍ تعكسُ جمالَ وعظمةَ وقيمةَ الأمكنة بالنسبة للشاعر ، وما أكثر المقاطع verses في هذه الملحمة . في المقطع أعلاه وردتْ هضاب وتلال قيسان ، ثم دارفور ، وسنار والرهد والدندر ومع كل وِرد مَزِيَّة ووظيفة ومدح ، وذلك شأن الأماكن في كل المقاطع .

في غروبك ؛ ربوع خصبة وتبر مبهول ..
وديان من عقيق ، مغسولة مطر وسيول ..
وكثبان تابة ، بطرز حواشي سهول ..
تجود بالكركدي ، وصمغ الهشاب والفول ..
وتدى القنقليس ، طول الشهور والحول ..
وفيك حفرة نحاس ، وأبوتولو غير مصقول ..
والعيش ، والسماسم ، والصمغ ، والكول ..
والتور ، والخروف .. والناقة ، والكاتول ..
علي دينار، كسب ليها الشرف والطول ..
أبو زكريا أداب العصاة ، زول زول ..
من وداي مكربت في ربوعها ويجول ..
لي الكفرة وصحاريها العجاف والفول .

وكلمة ” غروبك ” يقصد بها غرب السودان وما به من خيراتٍ حِسان وممالك كان لها شأنٌ بِتاجِ فخارٍ وسلطان . تأمّل المفردات في المقطع أعلاه واحدة تلو أخرى تجد الخير والنعيم في أراضي دارفور التي تعادل مساحة فرنسا . ألا يرعوي الذين ينادون بانفصالها أم إن حب السلطة والسلطان أعمى الأفئدة والعقول والبصائر ؟؟؟

مطروحة الجبين من سوبا لي سنار ..
نيليك من غرامن لبسوك سوار ..
أكنافك موطأة فيها ماء وخضار ..
ولي عزاز القبائل .. صرتي أحسن دار.
محصولك دهب ما بكيلو بالعبار ..
مواسمك عدة محسوبات طوال وكتار..
أرضك في الجمال محسوبة بالأشبار..
مشكلة بالتراب .. لكن لجين ونضار.

👆 ذلكم هو وسط السودان من سوبا إلى سنار قلب الجزيرة النابض وواسطة العقد خضرة ونضرة وزفة ألوان وقمحاٍ ووعداً وتَمَني ، موشحةً بالتِّبر الأبيض طويل التيلة وقصيره والذي كان يكسو السودان عزاً وفخراً ومهابة قبل أنْ يكسونا الذُّل والهوان وتصرَعُنا الأطماعُ والأنانية .

كلك أدباء من عشاق وفنانين ..
شالوك في عيونم وصوروك تلوين ..
وشاشوبك شعر مطبوع جزيل ورصين ..
فيه أم در.. وفيه الأسكلة وستين .
وعازة الفي هواك ، نحن الجبال ثابتين ..
يا فلق الصباح ، قول لي نهارك وين ..
ترعاك في الفؤاد ، بعناية الحارسين ..
يا كروان كرومه .. خليل فرح ما يلين .
يا ود الرضي القلبه انقطع نصين ..
ترى العبادي ماسك الدابي بالليدين..
مع أبو صلاح ونورالكهربائي الزين ..
فيك الحاج سرور، غني الفراق لي متين ..
وما عارف المفارق ، قدموماش لي وين ..
وياعازة الفراق .. طال بي ، وكله حنين .

وهذا المقطع يمدح عشاق الفن والجمال في أم دٌر : كرومة ، خليل فرح ، ود الرضي ، العبّادي، أبوصلاح والحاج سرور وأغاني الحقيبة الخالدة: ماهو عارف قدمه المفارق وعازة الفراق بي طال وسال سيل الدمع هطال يا عازة . نماذج فقط لإبداع لا يغشاه الضُّمور .
عزيزي القارئ هذا تناولٌ موجَز لبعض مقاطع الأوبريت الملحمة التي خطَّها يراعُ الشريف زين العابدين الهندي . ولمّا كان هذا الشعر شعبياً وعامراً بالصُّور والأخْيِلة الأدبية التي تحتضن نماذج من الجغرافيا والتاريخ والفن والتراث والتربية الوطنية ، فَحَرِّي بنا وبوزارة التربية والتعليم في بلادي أن تُدخِلَ مثلَ هذا العمل العظيم في مناهج المدارس عندنا .
وتتحول ملحمة الشريف زين العابدين إلى ” أوبريت ” بديع لحنا وموسيقى وتوزيع يخرج بها الكابلي عن المألوف ويصنع منها عملا فنيا كبيرا متكاملا لعبتْ فيه الفرقة الموسيقية والكورال والفنانين أدواراً مُبهرةُ نشرتْ فنّاً وغناءاً ساحراً مُلوّناً بكل الترانيم التي تُطرِبُ وتُحوِّل الشِّعر إلى عملٍ مُبهرٍ يرقى إلى مصّاف مسرحيات شكسبير على مسرح جلوب Shakespeare’s Globe .
رحم الله الأستاذ عبد الكريم الكابلي رحمةً واسعةً وتَقبّلَ الله الشريف زين العابدين وأنزلهما الفردوس الأعلى من الجنان.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *