اخبار السودان

ملامح من الحياة في كندا (4)

د. حامد بشرى

حامد بشري

تجربة الحصول علي عمل في كندا
في إعقاب ما تم نشره من ملامح من الحياة في كندا التي أطلع عليها البعض وصلتني عدة أسئلة وأستفسارات . لماذا فقط الكتابة عن الجوانب المضيئة ولا توجد أشارة للسلبيات في المجتمع الكندي ، حتي أن البعض ذهب في محاباتي لكندا بالعمالة . لماذا لم أتطرق للأمراض المذمنة في الدول الغربية ؟ هل الكل في كندا يعيش في بحبوحة كما عكستْ بعض الصور للمجتمع الكندي ؟ الاجابة قطعاً لا. بما أن الغاشي والداني لهم دراية ومعرفة بسلبيات المجتمع الغربي وسياساته من خلال الصور المرئية والمقرؤة وكندا ليست أستثناءً وأنما بدرجة أقل ففضلت أن أعطي صورة للإيجابيات في هذا المجتمع الذي عشت فيه أكثر من ثلاثة عقود (الشر يعم والخير يخص) . محاسن المجتمع الكندي التي تطرقت لها في (1) و(2) و(3) ما عدا الضمان الأجتماعي يتمتع بها الكنديون والمهاجرون الذين يتحصلون علي عمل مع التشديد علي الكلمتين الأخيرتين . أما الذين لم يتوفقوا في الحصول علي عمل فنصيبهم الضمان الأجتماعي فقط ، وفي تشبيه قد يكون مخلاً بعض الشيئ في حالة الحصول علي عمل في كندا رغم قساوة طقسها فيمكن وصفها بجنة الله في الأرض أما في عدمه فتتحول الجنة الي جحيم. وحقيقة هذه الوصف ينطبق علي أجزاء كثيرة من العالم والي فترة قريبة كان السودان جزءً من هذه المنظومة حيث يمكنك العيش في نعيم حتي بدون القيام بأداء عمل . لذا قررت أن أشرك القارئ تجربتي في الحصولي علي مصدر رزق في هذا الجزء من العالم . رغم أن هذه التجربة مضي عليها أكثر من ثلاثين عاماً وأندثرت بعض تفاصيلها الأ أن بعضها ما زال عالقاً بالذاكرة وقد لا تأتي بصورة كرونلوجية كما ينبغي خاصة بعد أن تقدم العمر .
وصلت كندا في 22 سبتمبر 1991م كشخص يحق له الاقامة الدائمة وفي معيتي شهادة دكتوراه في الهندسة الكيميائية تخصص في حماية البئية وأدارة الموارد وبراءة أختراع إضافة الي مبلغ 500 دولار . لا يفوتني في هذا المقام أن أشكر الاخ هاشم بدر الدين والأخت سمية عبدالمجيد علي إستقبالهم وإستضافتهم لي . وقتها كان الحديث عن البيئة يدور علي أستحياء في مجالس علمية محدودة بخلاف كندا التي كان وما زال لها دوراً رائداً في حماية البيئة ، وهذا من الأسباب التي دفعتني للهجرة لها بعد أن تمت إحالتي للصالح العام . تصورت منذ أن تطأ قدامي هذا البلد المضياف أن أتحصل علي عمل في ظرف أسبوع أو شهر علي الأكثر كما ينبغي . الخطوة الأولي في الحصول علي عمل كان تقييم الشهادة في مراكز علمية كندية حيث تمت معادلتها بأنها تعادل درجة الدكتوراة من الجامعات الكندية . هذا التقييم دفعني أكثر للبحث عن وظيفة في مجال تخصصي . في هذا الوقت تم توفير سكن لي وزوجتي عن طريق مؤسسة الضمان الأجتماعي . ومن ثم بدأ مشوار البحث عن عمل .
أتصلت بالجامعتين الموجودتين بمدينة أتاوا التي وصلتها لكي التحق بالتدريس أو البحث العلمي. أحدي الجامعتين كان ردها أن مجال التدريس أو البحث العلمي أولي به خريجيها ، لسببين اولاهما تشجيع المبرزين منهم للألتحاق بهيئة التدريس والسبب الثاني لمعرفتها التامة بهؤلاء الخريجين مقارنة بخرجين أتوا بشهادات من جامعات أخري . أما الجامعة الثانية أتجهت لها لكي أعمل متطوعاً بمختبراتها في بحث علمي . لم يجد طلبي قبولاً بحجة العمل في مختبر يتطلب تأميناً صحياً لدرء مصائب الدهر والجامعة في العادة تتكفل بالتأمين الصحي لطلبتها ولا توجد جهة تتولي تأميني . والسبب الثاني أذا قدر الله ووجدت عملاً براتب فأنني بالضرورة سأترك العمل التطوعي قبل أن أنجزه بالكامل . أمام هذه الردود قررت أن أرجع ثانية لمقاعد الدراسة وهذا يتطب في الدراسات العليا وجود مُشرف وله ميزانية مالية لتمويل البحث . بحثت عن مشرف وعرضت عليه شهاداتي وأوضحت رغبتي في العمل معه لتحضير شهادة الدكتوراة . وبعد أن أطلع علي الشهادات تعجب ورفض أن أكون طالباً له وكان رده أن أمكانياتي العلمية لا تقل من أمكانياته فكيف يحق له أن يقبلني طالباً أضافة الي أن قبولي في هذا البرنامج للدراسات العليا لنيل شهادة الدكتوراة للمرة الثانية يفرض علي دفع رسوم مالية عالية للتحصيل العلمي الذي قد تكون أضافته لا تتعدي العشرة بالمائة مما اصلاً تحصلت عليه من مستوي دراسي . أمام هذا الباب في الحصول علي شهادة علمية كندية لشخص مؤهل تتوالد العقبات . إتصلت بجهة حكومية (الضمان الأجتماعي) لكي يساعدني في الحصول علي عمل وهي الجهة التي تكفلت بأعاشتي وزوجتي طيلة هذه الفترة في البحث عن عمل . تم إرسالي لمدرسة لتعليم اللغة الأنجليزية لغير الناطقين بها أملاً في رفع مقدراتي اللغوية التي تأهلني للالتحاق بسوق العمل حيث يتم تقييم معرفتي باللغة ومن ثم أستيعابي في كورس لغة علي حسب المستوي الذي يناسب قدراتي . أتت نتيجة إختبار اللغة محبطة إذ ليس لي حوجه بتعلمها مما يعني جاهزيتي للالتحاق بالقوي العاملة في سوق العمل . هذا البحث المضني أستمر أكثر من عام .
بعد هذه المحاولات أتجهت للبحث عن الأعمال الهامشية التي ليس لها علاقة بالمؤهلات العلمية . الرحلة بدأت بمحطات القود ولم يكن لي حظاً أحسن من المحاولات في الجامعات والمعاهد العليا . محطات البنزين طالبت بخبرة كندية كغيرها من المرافق وكذلك العمل بالمتاجر . صادف بالقرب من السكن دار لعرض الأفلام السينمائية وأفقوا علي التعيين كعامل نظافة وطربت لهذه الموافقة لانها علي الأقل تعطي (الخبرة الكندية) التي تعتبر أول البنود في السيرة الذاتية لسوق العمل الكندي وفي نهاية المقابلة أستفسروا عن رخصة القيادة الكندية فتعجبت وسألت عن السبب في هذا الطلب الغريب وماهي العلاقة بين عامل النظافة ورخصة القيادة فجأت الأجابة أن الأدارة التي وقع عليها العطاء بالتنظيف تقوم بتنظيف دور العرض في أماكن مختلفة مما يتطلب ترحيل أدوات وماكينات النظافة من دار عرض الي أخري بالسيارة الشيئ الذي يتطلب رخصة ، وبالطبع لم أستوفي هذا الشرط .
صادف أن في الجهة المقابلة للسكن تم فتح فصول لتعليم اللغة الأنجليزية لغير الناطقين بها . أتصلت بمدير المدرسة وهو رجل من أصول أفريقية من دولة القابون يدعي (أباي كوكر) لكي إعرض عليه خدماتي. أقترح أن يعينني عامل نظافة بصورة غير قانونية لكي أقوم بتظيف الفصول والمكاتب وملحقاتها من الحمامات . شرح لي أسلوب تشغيل الماكينة الكبيرة التي تستعمل في تنظيف الفصول وقام بتدريبي عليها براتب وقدره 7 دولار في الساعة. شكرته كثيراً لأن هذه الوظيفة أصلاً تتبع لنقابة عمال النظافة والتعيين لها يتم بأسس وشروط مختلفة عبر النقابة وهي وظيفة محترمة حيث يصل راتبها الي ثلاثة أضعاف أو أكثر من ما تم عرضه علي مع شروط خدمة معاشية مرضية . وافقت علي هذا العرض وبدأت إعمل في هذا الموقع ليلاً . علي المستوي الخاص في هذه الفوضي الأنسانية والأجتماعية إضافة الي الأعباء الأقتصادية رُزقنا بمولودنا الأول (أمير) وأطلقنا عليه أسم أمير تيمناً بالطبيب المصري الأصل أمير حمايا الذي كان يشرف علي متابعة زوجتي اثناء فترة الحمل . أمير الأبن تخرج طبيباً حيث يعمل حالياً بمدينة أتاوا. نصحنا الطبيب أمير حمايا بصورة مهذبة أن نطلق علي مولودنا الجديد أسم من أسماء الأنجلوساكسون حتي لا يعاني المولود الجديد من أسم عربي في وسط أجتماعي مختلف الأ أننا لم نسمع النصيحة . كثيرون من الشباب العربي يستبدلون أسماءهم في هذا البلد لكي يتناسب مع المحيط الأجتماعي الذي يعيشون فيه ولنا في المليانير السوداني محمد فتحي (مو) أسوة حسنة . إضافة الي وظيفة عامل النظافة وجدت عملاً آخر وهو توزيع الصحف المحلية المجانية التي تعلن عن المحلات التجارية في الحي علي المنازل . هذا العمل في العادة يقوم به تلاميذ المدارس الأولية والاوسطي . والتوزيع عادة يتم بالأرجل علي منازل الحي .
وعلي الجانب الآخر الحقنا أمير بدار حضانة في المبني المجاور وكانت (قيتا) المسئولة عن رعايته أمرأة في غاية اللطف . عرضت علي أن أشتري سيارتها الكورية بمبلغ زهيد وهو 400 دولار . في هذا القطر أهم الأشياء التي يحتاجها المرء في البحث عن عمل تتمثل في قيادة السيارة ودراية بالحاسوب . هذه الملكات هي بمثابة الأرجل والأيدي. عرض السيدة (قيتا) مغري للغاية ولكن توجد صعوبة في الحصول علي المبلغ المطلوب . لا يمكن لي أن أطلب سعر أقل من سعر العرض بكل المقاييس . الشيئ الذي يمكن أن أطلبه هو تقسيط المبلغ . مشكورة وافقت (قيتا) علي الطلب وأصبحنا نملك سيارة . أمتلاك السيارة الهدف منه أن يساعد في تحسين الدخل وبالتالي رفع مستوي المعيشة . أنا وصديقي جلال حسين الذي حضر الي كندا في العام الذي يلي حضوري ولحق بي في محاولاتي للاختراق سوق العمل الكندي ، أشتركنا في معظم هذه المحاولات البحثية سوياً بدأً من الذهاب الي المعاهد الأكاديمية ومروراً بكل هذه العقبات وفي نهاية المطاف تحصلنا علي عمل مره في الأسبوع براتب علي ما أذكر يصل الي 15 دولاراً في الساعة . طبيعة العمل تتلخص في وضع إعلانات علي لوحات زجاجية لمحلات تجارية في أبنية حكومية وعمارات سكنية محددة ، هذا بالطبع بحبوحة مقارنة بالدخل السابق .
والي اللقاء في الحلقة القادمة .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *