اخبار السودان

ملاحظات سريعة حول العمل الجماعي للقوى المدنية لمواجهة الحرب .. قدر العاجزين عن التمام

 

ملاحظات سريعة حول العمل الجماعي للقوى المدنية لمواجهة الحرب
قدر العاجزين عن التمام

بكرى الجاك

 

منذ توقيع اتفاق الوثيقة في 2019 ظللت أتحدث عن أن شرعية التوافق الثوري التي أدت إلى تشكيل الحكومة الانتقالية سوف لن تصمد كثيرا ما لم تٌلحق بشرعية انتخاب أو شرعية انجاز، كنا نعلم أن الإنجازات صعبة في ظل الواقع الاقتصادي و الاجتماعي الكارثي الموروث لكن كان هنالك فرصة للحراك السياسي والتواصل لتحقيق شيء من الانجازات السياسية بتوسيع قاعدة المشاركة وفتح الفضاء العام، و من ضمن ما اقترحنا هو تنظيم انتخابات على مستوى المحليات. للأسف لم يحدث هذا ولا ذاك و تآكلت شرعية الحكومة الانتقالية و تضاءل التحالف الداعم لها بل أصبح بعض داعميها من المنادين باسقاطها. في هذا السياق انقلاب 25 أكتوبر 2021 لم يكن غير متوقع في ظل تراجع شرعية السلطة الانتقالية و تصاعد الغضب تجاهها، وهو أيضا أمر لم يكن صدفة فقد عملت له قوى منظمة و سخرت له المال و الاعلام و التخريب المنظم، و رغم ذلك ردة فعل الشارع منذ 21 أكتوبر هزمت الانقلاب ولم تمكنه من تشكيل اي سلطة، و كنا قد كتبنا في حينها أن الانقلاب فشل لأنه لم يجد لنفسه شرعية سياسية دستورية( قانونية) و لم يستطع خلق قاعدة اجتماعية رغم ما دفع من رشاوي للإدارات الأهلية. في مربع القوي الثورية المقسّمة و المنقسمة على نفسها كنت وما زلت أقول إن الأزمة هي أزمة مشروعية تمثيل وأن هنالك خياران: إما شرعية مكتسبة بالادعاء سوءا بالفعل الثوري أو بادعاء تمثيل قواعد اجتماعية بعينها أو بالتوافق، و بما أننا في ظرف لا يسمح لنا بقيام أي صيغة من صيغ الانتخابات التي يمكن أن تعطي شرعية لأي مشروع سياسي بعينه، و بدلا من البحث عن التوافق بين القوى المدنية كان الخيار العام لجل الفاعلين السياسيين هو التنافس على ادعاء شرعية التمثيل بكافة الأشكال وهو ما أسميته في وقتها بالسباق إلى الحضيض، وهو سباق إلى الحضيض لأنه قائم على الحط من قدر الفاعلين الآخرين لإثبات مدى ثورية او وطنية او احقية الفاعل المدعي للشرعية.

هذه المقدمة ضرورية لقول ما قلنا به من قبل أن الحرب لم تأتي من السماء و هي ليست صدفة و هي نتاج للأزمة التي أوقع فيها الانقلاب نفسه باعتباره أصلا تحالف قوى متصارعة و متنافسة على المصالح و كل منها في حاجة إلى السلطة لحماية هذه المصالح، من حيث ناحية تحليل يمكن القول أن الحراك الثوري خلق هذه التناقضات بين معسكرين من بقايا النظام السابق و هما من يقودا هذه الحرب الآن وهما اللذان يتصارعان على السيطرة على ما تبقى من جهاز الدولة لحماية مصالح التي لها امتدادات اقليمية و دولية و لم يعد هذا خافيا حتى على طوب الارض مياه الحفيرة. هذه الحرب الآن أقرب إلى أن تتحول الى حرب اهلية شاملة من أن تجد حلا عمليا سريعا برغم تعدد المنابر و الجهود الإقليمية والدولية، عسكريا لا يمكن حسم هذه المعركة لأي طرف دون أن تصبح حرب أهلية شاملة، و من ناحية سياسية أي حل يقنن لوجود قوات الدعم السريع في المشهد و بقايا الإسلاميين هو معادلة صفرية لا يمكن أن تستقيم وهو بالضبط ما يؤشر إلى أن أي حل سياسي فطير أو حتي وقف إطلاق نار مؤقت و لو بمراقبة دولية من الصعب أن يستدام، و ما حدث في دارفور هو أمر لا يمكن الرجعة عنه بسهولة حيث قوات الدعم السريع هي الحاكم الفعلي في دارفور و أي محاولة لتعديل ذلك هو أيضا بمثابة استمرار الحرب، و طبيعة تكوين هذه القوات يجعل من الصعب السيطرة عليها و قد تتمرد على أي محاولة لتقليص دورها و تقليص حجم المكاسب التي حققتها في الأرض خصوصا في دارفور.

من ناحية منذ اندلاع الحرب ظللت أنادي بأن الموقف الصحيح هو صعود تيارات مدنية تخلق توافق عريض لهزيمة الحرب و تجريد أطرافها من أي شرعية و رفض التماهي مع السرديات التي يحاول تسويقها كلا الطرفان، و أن قيام هذا التيار يضمن وجود أصوات للمدنيين في فرض شروط وقف إطلاق النار، و يضمن تصميم المدنيين للعملية السياسية وكيفية هندسة المشهد الوطني ما بعد الحرب بما في ذلك قيام حكومة مدنية خالصة و عمليات إعادة البناء و التعمير، و في حال استطال أمد الحرب وتوسعها وجود تيار مدني عريض يمكن أن يساهم في تشكيل سلطة انتقالية أو حكومة طواريء بحشد الدعم لها في الولايات الآمنة نسبيا و حشد الدعم الإقليمي والدولي لملء فراغ القيادة و حالة غياب أي شكل من أشكال السلطة. صعود تيار مدني بخطاب و رؤية ما زال هو الخطوة الأهم لوقف الحرب و هو أولوية، و عن نفسي انخرطت في البحث عن كافة السبل التي يمكن أن تساهم في تخليق هذا التيار المدني الذي يجب أن يقوم على توافق عريض وليس على السباق إلى الحضيض، و من واقع تجارب عملية و عمل مع العشرات من المجموعات و المبادرات خلال الأشهر الماضية سأبدي هذه الملاحظات الأولية:

أولا، كنت أظن أن أهوال الحرب في عاصمة البلاد و في دارفور وكردفان والنيل الأزرق ونهر النيل وما شهدنا فيها فيها من قتل و سحل و اغتصاب و تدمير للممتلكات العامة والخاصة واحتلال البيوت ستكون بمثابة اللحظة الفارقة العقل السياسي السوداني انعكاسا في طريقة ممارسة الطبقة السياسية وعامة الناس للعمل العام و كيفية التعاطي مع شأن معقد للغاية كالحرب بأبعادها الداخلية والإقليمية. يؤسفني القول أن تصوراتي عن ما كان يجب أن يكون عليه عقلنا السياسي و تفاعلنا مع الشأن العام ما بعد 15 أبريل، و التي كان يجب أن تكون مغايرة لما قبله، ببساطة لم تكن صحيحة. و بالرغم من أننا كجماعة مصابون بحالة من الصدمة الجماعية و مازلنا في حالة ذهول من هول ما جري ويجري في بلادنا إلا أنني أصبحت موقنا أن الاستسهال في التعاطي مع أمور معقدة هو سيد الموقف في كل المستويات الخاصة ( كل هذه الأهوال تحولت إلى محض طعمجة) والعامة، وأن الذاتية والنرجسية مازالت تعيق أي مسار موضوعي لأي حراك جماعي ضد الحرب. تجليات هذا السلوك السياسية ماثلة في المزايدات السياسية و ادعاء التفوق الأخلاقي، إذ يتحرك جل الفاعلون بافتراض أن الآخرين محل اتهام و عليهم نفي الاتهام (أي كان هذا الاتهام عنهم سواء اعادة انتاج الاطاري او انهم يعملون نيابة عن آخرين أو أنهم كذا و كذا و الكل متهم و الكل مدان)

ثانيا، هنالك نزعة عامة و صادقة و سط العديد من السودانيين لفعل شيء ما للتعاطي مع الحرب وما خلفته، للأسف جل هذا الحراك ينتهي بمجموعة من الناس غالبا تجمعهم تجارب سابقة أو تواصل حديث و يقومون بصناعة قروب في احد وسائل التواصل الاجتماعي و من ثم الغرق في تفاصيل تشخيص الازمة و كتابة أوراق و مبادرات ثم يسمون نفسهم كذا و كذا.

ثالثا، مازال العقل المسيطر على هذا الفعل الجماعي هو فكرة تخليص الضمير والإحساس بأن انخراط الفرد منا في فعل شيء هو المحرك و ليس بالضرورة قيمة ما نفعله و ما ينتجه فعلنا من نتائج على الأرض، لذا هنالك جهد و طاقات مهدرة و مكررة في عشرات قروبات الواتساب و آلاف المبادرات

رابعا، بدلا من التعاطي مع حقيقة أن أي مجموعة مهما بلغ حجمها و تنظيمها لا تستطيع الإجابة على سؤال مشروعية التمثيل و بدلا من قبول جميع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين أن لا شرعية لاي كيان أو جسم في الظرف الحالي و هذه حقيقة موضوعية لا تحتاج إلى جدال. حتى الأحزاب السياسية تعاني من أزمة شرعية ومشروعية تمثيل فغير أنها لا تمثل قطاعات كبيرة من الشعب السوداني لا يوجد حزب غير منقسم على نفسه و قيادات جل هذه الأحزاب لا علاقة لها بالقواعد. بدلا من التعاطي مع سؤال مشروعية التمثيل هذا بشيء من الجدية للأسف مضي جل الفاعلين في المشهد السياسي في مسار السباق الى الحضيض، وهو سباق حول شرعيات مدعاة و ليست مكتسبة بأي فعل كان، إذ ليس بإمكان أي مجموعة من الإجابة على “من نمثل نحن؟”. هذا مؤشر الي أن أن تصوراتي بأن الحرب كان كفيل بها أن تخلق واقع جديد غير صحيحة بالرغم من أن هذا سوف لن ينتج سوى مزيدا من التشظي و التفكك.

خامسا، ربما سيكون من الصعب، و ليس من المستحيل، الوصول الى توافق عريض بين القوى المدنية بالرغم من أن الغالبية العظمى من السودانيين متفقين على أجندة واضحة كالشمس، بل لأن هذه النخب السياسية، التي تمتلك المداخل و المخارج للحديث نيابة عن السودانيين، موغلة في النرجسية و الذاتية و تجيد ممارسة الوصاية و المزايدات الأخلاقية و لا أظن أن الحرب أو غيرها من كوارث و نوازل يمكن أن يهز كيانها و يحرك لها ساكن، فهي تتحدث نيابة عن ناس لا تكترث لاستشارتهم في كيف نوقف الحرب أو كيف نبدأ عملية التخطيط لإعادة البناء والإعمار.

خلاصة القول، نحن في واقع شديد التعقيد و في طريقه الى أن يزداد تعقيدا بتوسع دائرة الحرب وربما بدخول أطراف إقليمية فيها بشكل مباشر كما هي ضالعة فيها الآن بشكل غير مباشر، و أن الفرصة التي كان بإمكاننا انتهازها لخلق تيار مدني عريض يتحدث بصوت واحد وقادر على الوصول إلى شرعية توافقية تمكنّه من فرض إرادة سياسية على الأطراف المتحاربة و من ثم تجريدها من أي شرعية اخلاقية تتضاءل أمام ناظرينا، فأصبح المجتمع الدولي و الاقليمي ضالع في تعميق حالة التشظي وسط القوى المدنية المقسمة اصلا. فلكل مجموعة مدنيها المفضلين، فمثلا الاتحاد الأوروبي له مدنيه المفضلين، و الايقاد و الاتحاد الافريقي لهما مدنييهم المفضلين و هكذا تمضي ساقية الانقسام والتناحر العبثي وسط القوي المدنية. ضعف المجتمع المدني السوداني و حالة التشظي السائدة فيه ستكون عاملا اضافيا في توسع دائرة الحرب و استطالة أمدها و تعميق تبعاتها على النسيج الاجتماع. بالنظر الي المشهد الوطني بشكل عام الحرب تكاد تكون هي النتيجة المنطقية الوحيدة في هذا الواقع المادي، فإذا كان المدنيين يديرون صراعاتهم بالتشكيك والتخوين و إلقاء الاتهامات الجزافية بكل بساطة عبر التسجيلات العابرة للوسائط الاجتماعية، في المقابل العسكريون يديرون خلافاتهم بالبنادق و الرصاص و وسط رصاصهم يتم تدمير البلاد و حصد أرواح الناس هكذا سمبلة. في ظل هذا الواقع حتى و أن انتهت الحرب بوقف أصوات البنادق فليس من الممكن صناعة السلام، فالسلام الإيجابي يتطلب أكثر من إسكات البنادق بل يحتاج إلى خلق الشروط الموضوعية للتعايش، و هذا يتطلب وجود مجتمع مدني قادر على التحاور والتعايش مع التعدد و التباين و هذا يتطلب وجود للعقلانية التي كل ما سواها موجود الا هي في نفسها.

بكرى الجاك
19 يوليو 2023

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *