مفترق الطرق
د. عوض النقر بابكر محمد
وجود الفرد خارج التجمعات السياسية داخل مجتمع ما يعنى الى حد كبير ابتعاده عن دائرة المصالح المتشابكة والمعقدة فى آن معا سواء فى شكلها البدائى الانتماء العرقى ، القبلى ام الطائفى او فى شكلها المادى المتطور. هذا الوضع الذى قد تتراوح النظرة اليه من الانكار مرورا باعتباره شكلا من أشكال الاحتجاج والتجمع السلبى الى الوصم بالاهتزاز الفكرى ، غير ان الامر الذى لا جدال فيه انه يتيح للمرء قدرا قد لا يتوفر لغيره من التفكير الحيادى.
هذه المقدمة ضرورة لابد منها لمداخلة قد تصدم الكثيرين فى جدوى النظام الديمقراطى والذى يرى فيه الكثيرون الحد الادنى لجمع الشتات فى هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الوطن ولتفادى الفرقة وايقاف النزاعات المسلحة وهو اعتقاد يحمل فى طياته الكثير من الصحة برغم السوس الذى ينخر فى جسده.
نظام الانقاذ والذى نتمنى ان يكون آخر حلقات مسلسل الديمقراطيةالعسكرية هذه الدائرة المفرغة التى ظللنا ندور فيها منذ الاستقلال وحتى الآن ، ولعل طول عهد هذا النظام قد ساعد كثيرا فى تبييض وجه الديمقراطية الكالح الذى اخذ منا ولم يضف شيئا ولان ذاكرة الشعوب جد قصيرة بات الكل خارج سدة الحكم يفكر بان الديمقراطية فى نموذجها الغربى
الذى اكتوينا بناره هى الدرع الواقى الذى سوف يصون وحدة الوطن ويحمى ترابه.
يقول الدكتور فرانسيس دينق ان ما يدعو لتقسيم السودان وتجزئته هو ما يسكت عنه والدكتور فرانسيس كان يرمى الى اشياء بعينها الى ان مقولته يمكنها التمدد لتغطى الكثير الذى يغلفه الصمت ورغم ان العديد من الاقلام السودانية المقتدرة قد تناولت بالدراسة والتحليل فترات الممارسة الديمقراطية إلا ان معظمها قد حجمته ظلال الانتماء فالإشارة الى هشاشة البنية التحتية وتدنى الوعى السياسى لدى الناخب العادى هى مسلمات سياسية تشترك فيها ديمقراطيات الجنوب ولا تحمل طابع خصوصية اقليمية بعينها.
فترات الحكم العسكرى والاستبداد الفردى والتى ينظر اليها المؤرخون السودانيون بشكل يجردها من كل عمق جماهيرى هو امر يجافى الحقيقة تماما فالواقع ان اخفاق الممارسة الديمقراطية فى معظم الاحوال قد اوصل جماهير الشعب المغلوبة على امرها الى انتظار الخلاص والتغيير بغض النظر عن مضمون الجديد القادم وهنا تتصدى المؤسسة العسكرية بدافع الوطنية او غيرها من الشعارات التى تتطلبها المرحلة لتعتلى سدة الحكم.
وهنا يمكننا ان نطرح السؤال بشكل مباشر ما هى علة الديمقراطية فى السودان؟الواقع ان النظر الى نشأة وتاريخ الكيانات السياسية الكبرى فى السودان يشهد بسجل نضالى حافل ومن شخصيات سودانية لها وزنها الكبير فى المجتمع السودانى وان اى محاولة للانتقاص او التقليل من هذا الدور الذى رسا بمسيرة الدولة السودانية الى الاستقلال هو ضرب من المكابرة التى لا طائل من ورائها غير ان لكل مرحلة تاريخية معطياتها التى تميزها عن غيرها والفارس حين يترجل عن جواده فى الوقت الملائم هى الاخرى تضحية لا تقل عن سابقتها،فالكيانات السياسة الكبرى فى السودان برغم كل ما سبق لا تعدو كونها مجرد تجمعات طائفية لا تميز بينها ايدلوجية بذاتها وقد انتبه السيد الصادق المهدى رحمه الله الى هذه الحقيقة فحاول القيام بالعديد من الاصلاحات داخل حزب الامة الامر الذى انتهى الى انشقاقات متوالية داخل الحزب والتى ربما لا يكون سببها الاساسى هو هذه النزعة الى توسيع اطار الحزب ليشمل الدائرة القومية بأسرها ولكنها دون شك جزءا منها فمثل هذه التجمعات الطائفية لا تخلو من وجود متشددين داخلها ، وحتى لو افترضنا جدلا بنجاح مساعى المرحوم المهدى فإن هذا الاصلاح سوف يظل مجرد اجتهاد نظرى يرضى تطلعات النخبة اما على الصعيد الواقعى فإن الامور سوف تظل كما هى دون تغيير يذكر.
الاعتراف بعقم مثل هذه التجمعات السياسية الطائفية وعجزها التام عن تحقيق التطلعات الوطنية المشروعة هذا غير احيائها لجذور خلافات تاريخية عميقة داخل المجتمع السودانى والذى يعانى اصلا فى هذه الفترة من هذه النزعات الانفصالية والتى تطور بعضها حتى اصبح حربا داخلية تهدد الامن القومى للدولة. هذا الاعتراف الذى لا ينبغى اتخاذه كمبرر لحظر الاحزاب التى تقوم على اسس طائفية او دينية مهما بلغت درجة الاختلاف معها فمثل هذا الفعل بحد ذاته يعتبر خروجا عن اصول وقواعد السلوك الديمقراطى غير ان التأريخ يصنعه الرجال والقناعة حين تأتى من الداخل , بعد الفشل الذريع فى توطيد اركان الدولة الوطنية , تصبح اكثر رسوخا واشد متانة عن غيرها والفارس حين يترجل عن جواده فى الوقت المناسب متخليا بذلك عن كل امتياز إيثارا لوحدة الوطن وأهدافه العليا يكون بذلك قد قدم تضحية لا تقدر بثمن اما مكانته الدينية فهى من ثوابت المجتمع السودانى بلا جدال.
اما باقى الاحزاب ولناخذ اليسارية منها على سبيل المثال الحزب الشيوعى وحزب البعث يمكن القول بانها تعانى من الجمود الايديلوجى و بعض المنتقدين يرون أن هذه الاحزاب لم تعطِ أهمية كافية للتحديات المعاصرة مثل العولمة، والتكنولوجيا ، وحقوق الإنسان ، وهو ما قد يجعل خطاباتهم وأفكارهم غير ملائمة لمتطلبات العصر.كما نها تعانى من العزلة السياسية والصراعات الداخلية والفشل التام فى تكوين تحالفات عملية بسبب تقديم الايدلوجيا بدلاً من بناء تحالفات سياسية عملية مع باقي القوى وقد ادى هذا دائما إلى تعثر جهود تشكيل حكومات شاملة أو تحركات سياسية فعالة.
كتب هذا الموضوع قبل اكثر من ثلاثة اعوام ولم يتغير شىء بل دخلنا الى مرحلة الحرب بين الجيش الوطنى والدعم السريع وازداد بذلك الوضع تعقيدا ولم يعد لدينا غير الاحتمالات الآتية :
ايقاف الحرب والاتفاق على نموذج ديمقراطى اصيل يستمد اسسه وجذوره من الواقع السودانى
استمرار الحرب وخطر عودة الاسلاميين او التقسيم .
انتصار الجيش والعودة للبند الاول
انتصار الدعم السريع والاجندة الخارجية واهمها التقسيم.
عند مفترق الطرق يصبح القرار امانة تنوء بثقلها الجبال اذ انها تحكم على وطن واجيال قادمة ومن يتصدى لها فقد وضع نفسه فى موضع لا يحسد عليه خاصة وان افرازات الحرب الحالية قد اشعلت نيرانا فى المجتمع السودانى كانت خامدة تحت الرماد .
حفظ الله السودان.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة