جواز لقاتل.. ومنفى لناشطة: معايير معطوبة وفضيحة أخلاقية
أحمد عثمان جبريل
في الوقت الذي يُمنح فيه القتلة جوازات السفر، تُصادر من النشطاء حريتهم في تجديد جوازاتهم، لا تصبح القضية مجرد سوء إدارة.. بل فضيحة أخلاقية معلنة، ومكتملة الأركان.
الوطن، حين يُدار بهذه المعايير المعطوبة، يتحول من بيت للجميع إلى حصن للقوة، ومنفى للضمير.
❝ حين يصبح الصمت مكافأة، والصوت تهمة.. نكون في حضرة وطن مكسور. ❞
جبرا إبراهيم جبرا
(1)
في مدينة لم تعد تعرف أهلها، تخرج الأوامر بهدوء لحرمان الناشطة حنان حسن، من جواز سفرها. لا محكمة، لا لائحة اتهام، لا تبرير.. كل ما في الأمر أنها قالت: لا للحرب. لا للموت باسم الوطن. لا للقتل حين يكون الاختلاف رأيًا فقط.
فكان عقابها: “منفى بلا جدران، ورفض مطلق للعودة.”
(2)
وفي ذات البلاد، ومن ذات الجهات العليا، يصدر أمر ناعم كالماء، قاطع كالسكين:”منح إبراهيم بقال جواز سفر خاص”.
ليعود من تشاد إلى بورتسودان، ويُستقبل لا كمجرم حرب، بل كـ”فاتح”!.. إنا لله ياخ. إنه ذات العفو الذي منح لكيكل ليعود لحضن الوطن.. كأن ذاكرة الوطن قد مُسحت، وكأن نهر الدماء الذي جرى فيها مجرد سوء تفاهم سياسي.
(3)
بقال لم يكن شاهدًا. كان شريكًا.
خرج في بثوث حيّة يحرّض، ويُهاجم، ويُعنصر، ويسخر من الجيش، ومن الشعب، ومن الوطن ذاته.
وفي لحظة فارقة، كان صوتًا للجنجويد في كواليس الخرطوم، يتحدث من قلب الاحتلال، وكأن الخرطوم إرث عائلي تم استعادته..
ثم، حين لفظته المليشيا بعد أن استُهلك، عاد “بوجه جديد” ليُعرض على الناس كوطنيّ عائد..وكأن الذاكرة العامة لعبة قابلة للمسح.
(4)
لكن من الذي يُعيد تدوير الخراب؟
من يفتح باب الدولة للمجرم، ويغلقه في وجه الناشطاء؟
الإجابة لا تحتاج حدسًا: إنهم الإسلاميون، الكيزان، دعاة المشروع الحضاري القديم الذين لم يغادروا يومًا.. فقط غيّروا الأقنعة.
(5)
بقال لم يترك الدعم السريع، ولم يتبرأ من دمه.
بل استُهلك كأداة ثم أُهمل، إلى أن التقطه أولئك الذين يبحثون عن أي وجه يمكنهم به العودة.
جوازه ليس وثيقة سفر .. إنه مكافأة سياسية لمن خان، وإهانة لمن صان.
(6)
أما حنان، فهي ليست “ناشطة فقط”.
هي مواطِنة خذلها النظام لأنها قالت ما لا يُقال.
لأنها امتلكت من الشجاعة ما يكفي لتقف ضد الحرب، في وقت صارت فيه البنادق هي اللغة الرسمية، والصمت هو الدليل على النجاة.
جريمتها؟ أنها حملت ضميرًا نظيفًا.. لا يُباع.
(7)
حين تُمنح الجوازات للقتلة، وتُصادر من الأبرياء، فالمشكلة ليست في الوثائق، بل في ميزان العدالة المعطوب.
ما حدث ليس صدفة، بل إعلان واضح أن الدولة في قبضة من يرسمون الوطنية حسب المصلحة، ويعيدون تعريف “الخيانة” لتناسب أجنداتهم..
الفارق بين بقال وحنان، هو الفارق بين من باع الموت ومن صان الحياة.
بقال آلة في يد القتلة، أما حنان، فهي الذاكرة.
والذاكرة تؤلمهم أكثر من البنادق، لأنها لا تموت بانتهاء البث.
(8)
هل يُمكن لوطنٍ أن يستعيد كرامته وهو يُكافئ من أراق الدماء؟
هل يمكن لحكومة أن تُقنع شعبها بأنها تمثل “الحق” وهي تحاصر من لم يرفع سلاحًا يومًا؟
جواز بقال ليس حادثة.. إنه عنوان لمرحلة كاملة، تُغتال فيها الحقيقة، ويُخنق فيها الصوت، ويُكافأ فيها كل من تجرّأ على الدولة بسلاح، ويُعاقب من تجرّأ عليها بكلمة.
(9)
اليوم، إبراهيم بقال يعود بجواز خاص، وحنان حسن تُطارد بلا جواز.
لكن التاريخ لا يُكتَب في مكاتب الجوازات، بل في ذاكرة الشعوب.
وسيعرف هذا الشعب، حين يستفيق من هذا الكابوس القمىء، من الذي قال “لا” وهو يعرف ثمنها، ومن الذي باع “نعم” بثمن بخس.
بقى أن نقول: “الوطن لا يُبنى بجوازات تُمنح للخيانة، بل بأصوات مثل صوت حنان، تُنادي بالحياة في زمن الموت.. وتظل صامدة، حتى لو منعت عنها كل الأبواب.”.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير