التغيير: وكالات

الحرب في السودان، التي دخلت عامها الثالث، لم تقتصر تداعياتها على الخراب والدمار داخل البلد فحسب، بل امتدت لتطاول حياة السودانيين في الخارج، خصوصًا في مصر حيث تستقر أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين.

الانهيار الحاد في قيمة الجنيه السوداني قلّص قدرة الأسر على الصمود، خصوصًا تلك التي اعتمدت في معيشتها على تحويلات من داخل السودان أو على عائدات أعمال صغيرة ما تزال تعمل داخل البلاد. المفوضية ومنظمات إغاثية دولية أوضحت أن أعداد السودانيين المسجلين لدى المفوضية في مصر ضخمة، مما يجعل أي هزة اقتصادية تؤثر على شريحة واسعة من الناس.

الانهيار الاقتصادي للجنيه السوداني جاء كنتيجة مباشرة للحرب، إذ انهار الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجعت الصادرات، فيما تآكلت موارد الدولة من النقد الأجنبي. ومع استمرار الاقتتال، تعطلت حركة التجارة، وتضاعفت أسعار الوقود والسلع الأساسية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.

هذا الواقع جعل الجنيه السوداني يفقد أكثر من ثلثي قيمته خلال فترة قصيرة، فتحول إلى عملة عاجزة عن تغطية حتى أبسط احتياجات المواطنين داخل السودان نفسه، ناهيك عن الخارج.

الكثير من الأسر السودانية بمصر دخلت في حلقة مفرغة: تعتمد على تحويلات من السودان، لكن هذه التحويلات تتقلص يومًا بعد يوم بسبب انهيار الجنيه. على سبيل المثال، المبلغ الذي كان يعادل إيجار شقة صغيرة في القاهرة لم يعد يغطي إلا جزءًا يسيرًا من فاتورة الكهرباء أو الغذاء.

هذا الخلل ألقى بثقله على العائلات التي كانت تعيش بمستوى متوسط قبل الحرب، فتحولت بين ليلة وضحاها إلى أسر تعيش على المساعدات الخيرية أو الديون، أو تضطر إلى خيارات قاسية مثل إخراج الأطفال من المدارس أو العودة مجددًا إلى السودان رغم المخاطر.

في إحدى رحلات العودة عبر القطارات، قالت سلمى عبد الرحمن، القادمة من أم درمان لوكالة أسوشيتد برس «أنا سعيدة لأنني سأعود إلى أسرتي وأولادي». وأردفت وهي تمسح دموعها: «الوضع هنا صعب جدًا، لم نعد نستطيع دفع الإيجار أو شراء الطعام، كل شيء أصبح غاليًا، ولم يعد أمامنا إلا العودة إلى السودان مهما كانت المخاطر». كلماتها تختزل رحلة نزوح فاشلة انتهت بالعودة إلى بلد لا تزال خدماته الأساسية متذبذبة.

لكن ليست كل الأسر اتخذت قرار العودة. نهى محمد، لاجئة سودانية في ضاحية فيصل بالقاهرة، قالت: «نحن نعيش على ما يرسله أقاربي من الخارج، لكن الأمر صعب. كل يوم أفكر في العودة، لكنني أخشى على أطفالي من الحرب. هنا على الأقل هناك أمان، حتى لو كنا نعيش في شقة مع ثلاث أسر أخرى».

وفي شهادة أخرى، تحدث أحمد يوسف، وهو رب أسرة سودانية، قائلاً: «كنا نظن أن مصر ستكون محطة للنجاة، لكنها أصبحت سجنًا من الغلاء. لا نستطيع العودة ولا نستطيع الاستمرار. أولادي لم يعودوا يذهبون للمدرسة، وهذا يؤلمني أكثر من أي شيء».

هذه القصص تكشف وجهاً آخر للأزمة: حياة معلّقة بين بلد يحترق بالحرب وآخر يخنق ساكنيه بارتفاع تكاليف المعيشة. السودانيون في مصر يجدون أنفسهم في معركة يومية، ليس فقط مع الإيجار والغذاء، بل مع شعور دائم بالاغتراب وانعدام اليقين.

التداعيات لم تتوقف عند حدود الاقتصاد، بل امتدت إلى المجتمع والعلاقات الأسرية. كثير من العائلات التي كانت تُعد من الطبقة الوسطى قبل الحرب وجدت نفسها فجأة في هاوية الفقر، وبعضها انقسم تحت ضغط المعيشة حيث عاد بعض أفراد الأسرة إلى السودان تاركين النساء والأطفال في مصر. الشباب والأطفال يواجهون أزمة هوية، فهم غير قادرين على الاندماج في المجتمع المصري وفي الوقت نفسه محرومون من الاستقرار في وطنهم.

التقارير رصدت كذلك عودة جماعية، سواء طوعية أو قسرية، بعضها عبر برامج نقل رسمية أو مبادرات محلية، ما يوضح أن مسألة العودة لم تعد قرارًا فرديًا، بل انعكاس لواقع اقتصادي منهار جعل حياة اللاجئين في مصر شبه مستحيلة.

ما يربط كل هذه الروايات هو حقيقة واحدة: انهيار الجنيه السوداني لم يعد قضية نقدية بحتة داخل الحدود، بل أزمة إنسانية عابرة للحدود حوّلت لجوءًا مؤقتًا إلى مأساة معيشية، ودفعت السودانيين إلى خيارات مؤلمة بين الغربة القاسية والعودة إلى بلد ما يزال يحترق بالحرب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.