مصير قمر.. رحلة شاب سوداني بكاميرا رحالة فرنسي
قبل عام مضى وفي منطقة وادي حلفا يلتقي الشاب الفرنسي “كينو ييف” في الثلاثينات من عمره بشاب سوداني في العشرينات من عمره اسمه قمر. حدث اللقاء في لوكاندة ذات فناء واسع مصممة في شكل غرف مصفوفة متلاصقة، كل غرفة تسع اربعة أسرة أو أكثر.. دورة المياه والحمام يبدو عليها البؤس وقلة النظافة.
وضح منذ البداية أن طموح الشابين يختلف اختلافاً كبيراً بحكم الخلفيات والعوالم اللذان ينتميان اليها. كينو ييف دخل من مصر بدراجة هوائية بثلاث عجلات ذات محرك كهربائي مساعد يحمل عليها امتعته واغراضه وينوي المرور من خلال السودان الى اثيوبيا وكينيا ويوغندا وصولا الى جنوب افريقيا.
قمر كان عائدا لتوه من مناطق التعدين في شلاتين وفي حوزته عشرون جراما من الذهب هي كل حصيلته من عمل التنقيب مع خمسة آخرين من أقرانه. يعملون في منجم يمتد لمائة متر تحت الأرض حسب قوله، ليحصلوا خمستهم على مائة غرام من الذهب وزعوها بينهم بالتساوي بعد خصم نفقات الاكل والشرب.
حلم قمر أن يذهب لكينيا لتعلم اللغة الإنجليزية ومواصلة دراسته ليصير معلما في دارفور مكان جذوره الاصلية في زالنجي قبل أن تنزح اسرته للخرطوم فرارا من الحرب.
لقتل الملل في وادي حلفا، منطقة خالية من أي عزاء، يتجول قمر مع رفيقه كينو في السوق المحلي بحلفا انتهاء ببحيرة ناصر حيث تنقل عربات الكارو ذات البراميل الملونة ماء الشرب للسكان، وتنعقد أواصر الصداقة بينهم.
في وادي حلفا يفترق قمر وصديقه الفرنسي كينو ييف كل لحال سبيله، على أمل اللقاء ذات يوم وتبادلا ارقام الهاتف.
بعد رحلة مضنية بالدراجة سجلها كينو في الفلوق الخاص به على قناة اليوتيوب، يصل للخرطوم. هناك وبعد أن استتبت له الأمور كسائح عابر عاود الاتصال بصديقه قمر ليتلقيا مرة أخرى وفي ظروف مختلفة. هذه المرة في منطقة سوبا حيث يقيم قمر وأسرته. منزل بسيط من المواد الثابتة ومؤثث بصورة جيدة. والدته تعمل في صنع الطعام وبيعه والوالد يعمل في ورشة للحدادة يمتلكها. قمر يتجول في الحي بين أصدقائه بدون عمل واضح وفي رأسه الكثير من الاحلام بالخروج من السودان من أجل الدراسة والعمل.
فشل مشروعه في التنقيب عن الذهب وها هو يعود لأسرته خالي اليدين. على هذه الخلفية يدعو قمر صديقه الفرنسي لزيارته بمنزله وتناول وجبة الإفطار معه. وجبة قوامها ما تعده والدته من اطعمة تقليدية للبيع، عصيدة وكسرة وأنواع مختلفة الطبيخ المناسب لها من روب وتقلية وكول.
وفي لقطة من قمة هذا اللقاء اصطحاب قمر لصديقه كينو لتناول بعض اطعمة الشارع وتحديدا رؤوس الدجاج المقلية التي استطابها صاحبه ببعض المجاملة. قمر حافظ على أصالته ولم يصطنع شيئا خاصا من أجل صديقه الأوروبي.
افترق الصديقان مرة أخرى كل يطارد مشروعه وأحلامه.. يذهب كينو في رحلة طويلة الى اثيوبيا ومنها الى كينيا وصولا ليوغندا قبل أسبوعين.
وفي واحد من حلقات الفلوق الخص به يعلن ايفو إنه بصدد لقاء صديق قديم في كمبالا.
نتابع رحلته نحو الموعد بالدراجة النارية ثم سيرا على الاقدام في أزقة كمبالا القديمة ذات المجاري المفتوحة، قبل أن يدخل منزلا واطئ السقف تبدو على حوائطه الخارجية اثار الرطوبة.. الغرف الداخلية من مواد مؤقتة تشبه الخشب الصناعي، في داخل غرفة صغيرة ضيقة، نفاجأ بصديقنا القديم قمر، نفس الشاب من وادي حلفا وسوبا بالخرطوم.
شردته الحرب كما الملايين من منزله بسوبا ليستقر به المقام في كمبالا القديمة في غرفة مشتركة مع اثنين من أصدقائه يدفعون مائة دولار شهريا كإيجار لها. يعمل قمر في تجارة الأغراض الصغيرة مناديل الورق والشماسي والهدايا التذكارية والمصابيح اليدوية والأدوات الكهربائية الصغيرة رخيصة الثمن. وفي ذات الوقت يواصل دراسة اللغة الإنجليزية من أجل مواصلة تعليمه.. يحلم مازال أن يكون مفيدا لمسقط رأسه في دارفور، عمل مشروع كهرباء بالطاقة الشمسية للقرى المعزولة التي لم يعرفها سكانها الكهرباء من قبل.
الصدفة وحدها هي التي جعلت قمر شخصية مركزية تتكرر ثلاث مرات في فلوق الشاب الفرنسي كينو ييف. قمر يتحول هنا إلى رمز للطاقات البشرية المهدرة في السودان، لغياب الفرص امام الشباب الذين لا ينقصهم الطموح. ولشبح الحرب التي شردت اهله من دارفور لتلاحقهم في العاصمة الخرطوم وتشردهم مرة أخرى لدول الجوار. الحرب التي ولد جيل كامل في ظلها يقتربون الآن من سن الكهولة دون أن تنتهي ويعود الناس لحياتهم الطبيعية.
قمر يمثل مئات الالاف من الشباب الذين أغلقت امامهم الأبواب وتضاءلت حظوظهم من الفرص ليصيروا فريسة لليأس. وتشاء الظروف أن تصل قصته للناس عن طريق كاميرا أجنبي توفرت له كل الفرص لمطاردة حلمه، الامر الذي يفضح أغلب صناع المحتوى السودانيين على اليوتيوب والتيك توك والإنستغرام الذين ينظرون في كل ناحية، عدا مأساة اقرانهم في العمر الذين تركتهم الدولة لمصيرهم بلا تعليم، بلا تأهيل أو تدريب، وبدون أي فرصة عادلة يستحقونها.
إبراهيم حمودة راديو دبنقا
المصدر: صحيفة الراكوبة