خالد أبوأحمد

على امتداد العقود الأخيرة، أثبتت مشاريع الإسلام السياسي، على اختلاف مذاهبها وشعاراتها، أنها ليست سوى مشاريع هدم ‏وتفكيك للدولة والمجتمع، تُدار بعقلية الغنيمة وتُبرَّر بخطاب ديني مؤدلج. من طهران إلى الخرطوم، ومن صنعاء إلى بيروت ‏وبغداد، تتكرر المعادلة ذاتها‎: ‎عنف مسلّح يشرعن بخطاب ديني، موارد دولة تُنهب لصالح شبكات الولاء، وشعوب تُقاد إلى ‏حروب وصراعات مفتوحة بلا نهاية‎.‎

هذه المشاريع ترتكز على ثلاثة مرتكزات ثابتة‎:‎

1.‏ استسهال قتل الإنسان وإهدار دمه باسم العقيدة أو المصلحة السياسية‎.‎
‏2.‏ الاستيلاء على موارد البلاد وتحويلها إلى أدوات تمويل للسلطة الموازية‎.‎
‏3.‏ تسييس الدين وتحويله من قوة روحية جامعة إلى أداة فرز وتقسيم وقمع‎.‎
والنتيجة واحدة: دُول مفككة، مجتمعات مُنهكة، واقتصاديات منهوبة. ما يجمع هذه التجارب هو غياب الدولة كمؤسسة جامعة، ‏وحلول المليشيا أو الحزب العقائدي محلها، وتحوّل الولاء الديني أو الطائفي إلى معيار الحقوق والفرص‎.‎

أولاً: النموذج الخاص الحوثيون في اليمن والإسلامويون في السودان

1. العنف المُمَنهج واستسهال قتل المدنيين

في اليمن منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، تحولت الحرب إلى ساحة مفتوحة للعنف المُمَنهج ضد المدنيين. شملت ‏الانتهاكات القصف العشوائي للأحياء، وتجنيد الأطفال، وزراعة الألغام في المناطق الزراعية، واستهداف الأسواق ‏والمستشفيات. وتوسّعت قدراتهم إلى تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر عبر الصواريخ الباليستية والمسيّرات والزوارق ‏المفخخة، ما أسفر عن مقتل مدنيين بينهم بحّارة أجانب، وألحق أضرارًا بسفن تجارية عالمية. هذه الممارسات أدّت إلى إعادة ‏تصنيف الولايات المتحدة لجماعة الحوثي في فبراير 2024 كـ “كيان إرهابي عالمي مُدرج خصيصًا” بسبب تهديدها الأمن ‏الإقليمي والدولي‎.‎
في السودان، اتسم حُكم الإسلامويين على امتداد 36 عاما بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، أبرزها الجرائم المرتكبة ‏في إقليم دارفور منذ 2003، والتي وصفتها المحكمة الجنائية الدولية بالإبادة الجماعية. وقد تم تنفيذ هذه الجرائم عبر تسليح ‏ميليشيات (الجنجويد) التي تطورت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع، وهي نفسها التي تواصل منذ أبريل 2023 ارتكاب مجازر ‏وعمليات تهجير قسري وتدمير واسع للبنية التحتية، في مشهد يؤكد استمرارية بنية العنف التي أرساها النظام السابق‎.‎

‎2. القمع السياسي وتصفية المعارضة

في اليمن، أُغلقت مساحات العمل السياسي المستقل، واعتُقل المئات من المعارضين، بما فيهم صحفيون وموظفون أمميون، ‏وتعرّض بعضهم للإخفاء القسري أو الإعدام الميداني. ترافق ذلك مع محاكمات غير عادلة، وسيطرة تامة على وسائل الإعلام ‏المحلية، واستخدام مناهج التعليم كأداة لتلقين الأيديولوجيا‎.‎

في السودان، شكّل جهاز الأمن والمخابرات الوطني أداة قمعية مركزية، مارست الاعتقال التعسفي والتعذيب والاغتصاب ضد ‏المعارضين، وأغلقت الصحف، وفرضت قوانين مثل “النظام العام” لتقييد الحريات، خصوصًا بحق النساء. كان الهدف ليس ‏فقط إسكات الأصوات المعارضة، بل أيضًا إعادة صياغة الفضاء العام بما يتوافق مع أيديولوجية الحزب الحاكم‎.‎

‎3. نهب الموارد و«اقتصاد الحرب‎»‎

الحوثيون أحكمُوا السيطرة على الموارد العامة في مناطقهم، خاصة عبر ميناء الحديدة، وفرضوا جبايات على التجار، ‏واستحوذوا على عائدات الضرائب والجمارك، كما عطّلوا صادرات النفط من مناطق الحكومة، ما خلق أزمة موارد خانقة. في ‏ديسمبر 2023، علّق برنامج الغذاء العالمي توزيع المساعدات في مناطقهم بسبب خلافات على آليات الاستهداف ومنع وصول ‏الغذاء إلى مستحقيه‎.‎
في السودان صمّم الإسلامويون منظومة (التمكين) لاحتكار الاقتصاد عبر شبكات الحزب والأمن، وخصخصة الشركات ‏الحكومية لصالح كوادرهم، والسيطرة على قطاعات استراتيجية مثل الذهب والنفط. هذه الشبكات لم تتفكك بإبعاد (الرئيس) ‏عمر البشير، بل استمر جزء منها في تمويل الميليشيات والنخب السياسية المرتبطة بالإسلامويين‎.‎

‎4. تسييس الدين وتبرير العنف

الحوثيون استندوا إلى خطاب ديني مذهبي يضفي طابعًا مقدسًا على الحرب، ويوظف المناسبات والشعائر الدينية لتعزيز الولاء. ‏أما الإسلامويون في السودان، فقد صاغوا مشروع “الحضارة الإسلامية” كإطار أيديولوجي يبرر الانقلاب على الديمقراطية ‏وقمع المعارضة، ويمنح الحاكم سلطة مطلقة تحت غطاء “تطبيق الشريعة”. في الحالتين، يصبح الدين أداة للهيمنة السياسية، لا ‏إطارًا للأخلاق والعدالة‎.‎

‎5. الارتباطات الخارجية

يحظى الحوثيون بدعم سياسي وعسكري من إيران، بما في ذلك نقل تكنولوجيا الصواريخ والمسيّرات، بينما اعتمد ‏الإسلامويون في السودان على تحالفات إقليمية ودولية مع تيارات وحكومات إسلامية، وحافظوا على قنوات مع قوى كبرى ‏لحماية حكمهم، كما حوّلوا بعض الميليشيات إلى لاعبين إقليميين في مجالات الأمن والتجارة‎.‎

‎6. تغبيش الوعي وتشويه المعارضين وحرمانهم من الحقوق

الإسلامويون في السودان لم يكتفوا بالقمع المادي، بل عملوا على تغبيش وعي المجتمع عبر الإعلام الرسمي والمناهج، وترويج ‏خطاب التخوين والتكفير بحق المعارضين. لجأوا إلى التشويه الشخصي، وتلفيق قضايا، وحرمان شخصيات معارضة من ‏دخول البلاد أو من الحصول على جوازات سفر وتجديدها، لكسر إرادتهم وعزلهم عن جماهيرهم. هذه الممارسات حوّلت ‏الحقوق الدستورية إلى امتيازات تمنح فقط للمؤيدين، في تناقض صارخ مع مبدأ المواطنة‎.‎

ثانيًا: الإطار الأوسع مشاريع الإسلام السياسي في المنطقة

إيران: المصدر والنموذج

منذ 1979، أسست إيران نظامًا يجمع بين سلطة ولاية الفقيه والأجهزة الأمنية، مستخدمة الحرس الثوري كأداة قمع داخلي ‏وتدخل خارجي. قُمعت الاحتجاجات الداخلية بدموية (2009، 2019، 2022)، بينما تم تصدير النموذج عبر دعم حركات ‏مسلحة في العراق واليمن ولبنان وسوريا، مع تمويل الشبكات الحليفة من خلال النفط والاقتصاد الموازي‎.‎

العراق: الميليشيات والدولة الموازية

بعد 2003، تمدد نفوذ الأحزاب الإسلامية الشيعية المدعومة من إيران، وأُنشئ “الحشد الشعبي” كقوة مسلحة موازية للجيش. ‏هذه الميليشيات سيطرت على منافذ اقتصادية كالموانئ والمعابر، ومارست اغتيالات سياسية بحق ناشطين وصحفيين، مما أدى ‏إلى تآكل سلطة الدولة‎.‎

لبنان: حزب الله والدولة المختطفة

حزب الله جمع بين العمل السياسي والسلاح، مفروضًا هيمنته على القرار اللبناني. استثمر في قطاعات اقتصادية ومصرفية، ‏وتورط في اغتيالات سياسية (20052008)، وتدخل عسكريًا في سوريا، مبررًا ذلك بخطاب “المقاومة” والدفاع عن الأمة‎.‎

السودان: المشروع الحضاري المزعوم

حكم الإسلامويون السودان بانقلاب عسكري، ودمجوا السلطة الدينية بالسيطرة الأمنية، ونهبوا الموارد عبر شبكات “التمكين”، ‏وقمعوا المعارضة بلا هوادة، حتى انهار النظام تحت ضغط الثورة الشعبية في 2019، لكن إرثه الميليشياوي والاقتصادي ظل ‏فاعلًا‎.‎
الخلاصة أن النماذج الخمسة إيران، العراق، اليمن، لبنان، السودان تختلف في السياقات الجغرافية والمذهبية، لكنها ‏تشترك في بنية سلطوية واحدة‎:‎
• العنف المُمَنهج أداة الحكم الأساسية‎.‎
• الاقتصاد المنهوب مصدر بقاء السلطة‎.‎
• الدين المؤدلج غطاء شرعي للقمع والفساد‎.‎

هذه ليست مجرد ظواهر محلية، بل جزء من منظومة إقليمية تُعيد إنتاج نفسها حيثما سنحت الفرصة، وتستمر ما لم يتم كسر ‏الحلقة عبر بناء دولة مؤسسات حقيقية، وسيادة القانون، وتجريد الميليشيات من السلاح، وفصل الدين عن الصراع السياسي‎.‎
‏14 أغسطس 2025م

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.