تعد “الحركة الشعبية لتحرير السودان” واحدة من أبرز الظواهر السياسية والعسكرية التي طبعت تاريخ السودان الحديث، لما مثلته من تحول نوعي في طبيعة الاحتجاج المسلح ضد السلطة المركزية، الذي أفضى في نهاية الأمر إلى انفصال جنوب السودان.

تميزت الحركة التي نشأت منذ سبعة عقود بطرح سياسي جمع بين العمل العسكري والأفكار الأيديولوجية، من خلال تبنيها مشروعاً يعرف بـ”السودان الجديد”، الذي دعا إلى إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة. وخلافاً للحركات الجنوبية السابقة التي ركزت على مطلب الانفصال، رفعت الحركة في بداياتها شعارات إصلاحية وحدوية تستهدف بنية الدولة المركزية.

ومع تطور الأحداث مرت الحركة الشعبية بتحولات كبيرة، سواء بعد توقيع اتفاق السلام (نيفاشا) في التاسع من يناير (كانون الثاني) 2005، أو عقب انفصال الجنوب عام 2011، مما جعلها كياناً سياسياً مركباً ومتعدد الاتجاهات يحمل في داخله تناقضات الواقع السوداني وتعقيداته. فقد شهدت الحركة تطورات داخلية متعددة، سواء على صعيد القيادة أم البنية التنظيمية، كذلك تأثرت بتحولات المشهد السياسي في كل من دولتي السودان وجنوب السودان، وما رافق ذلك من صراعات وتسويات وانقسامات داخلية، وصولاً إلى انعكاسات الحرب في السودان المشتعلة منذ أبريل (نيسان) 2023. وفي دولة جنوب السودان نفسها، حيث تتقاطع الطموحات السياسية مع الانتماءات القبلية، ويتصاعد صراع شرس على السلطة داخل حزب “الحركة الشعبية” الحاكم، تحولت على أثره الخلافات إلى معركة نفوذ تذكيها الانقسامات الإثنية والصراعات القبلية المتجذرة.

1. ما جذور “الحركة الشعبية لتحرير السودان”

تعود جذور “الحركة الشعبية لتحرير السودان” إلى التراكم التاريخي للتمايز السياسي والاجتماعي والثقافي بين شمال السودان وجنوبه، الذي تعمق منذ فترة الاستعمار الإنجليزي المصري (18981956)، حين اتبعت الإدارة الاستعمارية سياسة “المناطق المقفولة” التي عززت عزلة الجنوب عن الشمال، ومنعت التداخل التعليمي والثقافي، مما أسس لفجوة هيكلية بين الجنوب وبقية أقاليم السودان.

في مرحلة ما بعد الاستقلال فشلت النخب الحاكمة في الخرطوم في استيعاب تطلعات الجنوبيين ضمن مشروع وطني جامع، وفسر من قبل النخبة الجنوبية المثقفة في الخرطوم كـ”هيمنة شمالية عربية إسلامية” على مفاصل السلطة والثروة. وكانت شرارة الحرب الأهلية الأولى قد اندلعت بتمرد قادته حركة “أنانيا” عام 1955، ثم نشط الجنوبيون سياسياً وكونوا “جبهة الجنوب”، وتطور هذا التنظيم ليكون الواجهة السياسية الأبرز للنخبة المثقفة خلال تلك الفترة، خصوصاً في ستينيات القرن الماضي. كانت الجبهة تضم سياسيين ومتعلمين جنوبيين بارزين، وسعت إلى التعبير عن تطلعاتهم داخل الإطار السياسي السوداني، من خلال المطالبة بالفيدرالية، والعدالة في تقاسم السلطة والثروة، والاعتراف بالتعدد الثقافي. وكان من أبرز قياداتها سانتينو دينق (الكبير) وأبيل ألير وجوزيف أوقري، وغيرهم ممن أدوا دوراً لاحقاً في مفاوضات اتفاق “أديس أبابا” 1972.

بعد انتهاك الاتفاق من قبل نظام الرئيس جعفر النميري، لا سيما عبر تقويض الحكم الذاتي للجنوب وتطبيق “قوانين سبتمبر”، تفجرت الحرب الأهلية الثانية عام 1983، وظهرت “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة العقيد جون قرنق دي مبيور، وجمعت بين الطابعين السياسي والعسكري، إذ أنشأت جناحاً مسلحاً هو “الجيش الشعبي لتحرير السودان”، لتخوض من خلاله صراعاً طويلاً مع الحكومة المركزية.

2. ما الأيديولوجية التي طرحتها الحركة من خلال مشروع “السودان الجديد”، وكيف كان يختلف عن الطروحات التقليدية؟

تميزت “الحركة الشعبية”، منذ عام 1983، برؤية سياسية وأيديولوجية تجاوزت الطروحات التقليدية التي تبنتها الحركات الجنوبية السابقة، مثل حركة “أنيانيا” أو “الجبهة الجنوبية”، والتي ركزت بالأساس على مظالم الجنوب ومطالب الانفصال أو الحكم الذاتي كحل نهائي للتهميش. ففي حين كانت تلك الحركات تنطلق من إطار جهوي ضيق يعبر عن تطلعات الجنوب في مواجهة المركز، طرحت “الحركة الشعبية”، بقيادة العقيد جون قرنق، مشروعاً سياسياً شاملاً لتغيير بنية الدولة السودانية ذاتها.

تقوم أيديولوجية “الحركة الشعبية” على مشروع “السودان الجديد” الذي أُسس على الدعوة إلى رفض “هيمنة الهوية العربية الإسلامية” باعتبار أنها مفروضة من قبل النخبة المركزية في الخرطوم، ويدعو إلى دولة علمانية “تقوم على المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والتعدد الثقافي”، بحيث تُتجاوز الانقسامات الإثنية والدينية التي كثيراً ما غذت النزاعات السودانية. وفي هذا السياق، لم تقدم الحركة نفسها كمجرد حركة جنوبية انفصالية، بل كحركة تحرر وطني سودانية تستهدف بنية الدولة المركزية وتطمح إلى إعادة تأسيسها على أسس جديدة، مما أضفى عليها بعداً أيديولوجياً تقدمياً ميزها كما منحها شرعية سياسية أوسع.

3. من هو جون قرنق، وما خلفيته الأكاديمية والعسكرية؟

كان جون قرنق دي مبيور شخصية استثنائية في التاريخ السياسي السوداني، إذ امتلك كاريزما قيادية نادرة جمعت بين العمق الفكري والبراعة العسكرية، وبين الجاذبية الخطابية والحضور الشعبي اللافت. ولد عام 1945 في منطقة بور بجنوب السودان، وتلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة، حيث نال درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة “آيوا”، كما خضع لتدريب عسكري رفيع في تنزانيا وإثيوبيا، وشارك في صفوف “أنيانيا” الأولى، مما منحه تجربة شاملة تجمع بين النظرية والممارسة والفكر والسلاح والرؤية والواقع.

استطاع قرنق أن يعيد تشكيل مفهوم “الزعامة” في جنوب السودان وخارجه، كقائد عسكري حاول إعادة هيكلة الدولة السودانية عبر ما سماه بـ”السودان الجديد”. ومن خلال هذا المشروع الوحدوي الراديكالي، استطاع أن يستقطب مؤيدين ليس فقط من الجنوب بل ومن مناطق مهمشة أخرى كجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق، بل حتى من بعض دوائر النخب المثقفة في الشمال. وقد تجلى تأثيره الشعبي حين عاد إلى الخرطوم بعد توقيع اتفاق “نيفاشا”، إذ استقبله حشد فاق المليون شخص في الساحة الخضراء، في مشهد غير مسبوق في الذاكرة السياسية السودانية.

لكن في مقابل هذا الزخم الشعبي والرهان الوطني، واجه قرنق عداءً شديداً من بعض الدوائر في الشمال، بلغ في بعض الأحيان حد التعصب، لا سيما في عهد الرئيس السابق عمر البشير، ضد خلفيته الأيديولوجية. ونتيجة لخشية عميقة من مشروعه الذي كان يهدد امتيازات الطبقة الحاكمة التي تمترست خلف “الهوية العربية الإسلامية” وتاجرت بها، فإنها باتت ترى في قرنق تهديداً “لجوهر الدولة”، كما صورها الخطاب القومي التقليدي.

وقد غذت بعض الأجهزة الإعلامية والسياسية هذا العداء، عبر حملات تخويف من نيات قرنق، وتصويره كرمز انفصالي أو عميل خارجي، على رغم خطابه الوحدوي، مما أسهم في استقطاب مشاعر الرفض والتوجس من قبل شرائح واسعة، خصوصاً في ظل إرث طويل من التوجس المتبادل بين الجنوب والشمال.

4. ما أبرز المحطات العسكرية والسياسية للحركة الشعبية بين عامي 1983 و2005؟

 مرت الحركة بمحطات بارزة، منها توسعها الجغرافي إلى منطقة الانقسنا والنيل الأزرق ومنطقة جبال النوبة بجنوب كردفان، وعقدها تحالفات مع قوى الهامش، خصوصاً خلال تسعينيات القرن الماضي. تمكنت من بناء إدارة مدنية في المناطق المحررة، وأطلقت برامج تنموية محدودة. وعلى الصعيد الدولي كسبت تعاطفاً واسعاً، لا سيما بعد تقرير لجنة الأمم المتحدة حول الرق في السودان. انتهت هذه المرحلة بتوقيع اتفاق “نيفاشا” في 2005، الذي ضمن تقاسم السلطة والثروة، ومنح الجنوب حق تقرير المصير عبر استفتاء أسفر عن الانفصال.

5. كيف أسهم اتفاق السلام الشامل (نيفاشا 2005) في تغيير وضع الحركة سياسياً وعسكرياً داخل السودان؟

شكل اتفاق “نيفاشا” نقطة تحول تاريخية في مسار “الحركة الشعبية”، إذ انتقلت من كونها حركة تمرد مسلحة ذات مطالب إصلاحية إلى فاعل سياسي معترف به على مستوى الدولة، يتمتع بشرعية دستورية ومؤسسية غير مسبوقة في تاريخ الصراع السوداني.

على الصعيد السياسي نص الاتفاق على تقاسم السلطة بين حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم حينذاك و”الحركة الشعبية”، وأدى إلى تعيين قائد الحركة جون قرنق نائباً أول لرئيس الجمهورية، وتخصيص مناصب وزارية رئيسة لها في الحكومة المركزية، بما في ذلك وزارات الخارجية والطاقة والنقل، كذلك أعطى الحركة سيطرة شبه كاملة على حكومة جنوب السودان الذاتية، مع تأسيس برلمان وحكومة إقليمية خاصة بها، وهي ترتيبات منحتها إطاراً سيادياً شبه مستقل داخل بنية الدولة السودانية.

أما عسكرياً فقد قضى الاتفاق بدمج عناصر من “الجيش الشعبي لتحرير السودان” ضمن القوات المسلحة السودانية، إلى جانب إنشاء وحدات مشتركة بين الطرفين عرفت باسم “القوات المشتركة المدمجة”، وهو ما منح الجيش الشعبي اعترافاً رسمياً كقوة نظامية داخل الدولة، مع احتفاظه بقيادته وهيكله في جنوب السودان طوال الفترة الانتقالية.

إضافة إلى ذلك خول الاتفاق “الحركة الشعبية” المشاركة في صياغة دستور انتقالي قومي، وإجراء استفتاء لتقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد ستة أعوام، كذلك فإن الاتفاق عبر عن طبيعة الحركة بتحولها من جماعة مسلحة معارضة إلى شريك حاكم في المركز ومنظومة حاكمة في الجنوب، مما أعاد رسم توازن القوى داخل السودان، وفتح مرحلة جديدة من دوامة الصراع والتفاوض.

6. ما التغيرات التي طرأت على بنية الحركة وقيادتها بعد مقتل قرنق عام 2005؟

شكل مقتل جون قرنق في الـ30 من يوليو (تموز) 2005 في حادثة تحطم مروحية لحظة فارقة في مسار “الحركة الشعبية”، إذ خلفت فراغاً قيادياً عميقاً، وأجبرت الحركة على إعادة ترتيب بنيتها التنظيمية والسياسية بصورة عاجلة، فقد اختير سلفا كير ميارديت، نائبه ونائب القائد العام للجيش الشعبي، خلفاً له في قيادة الحركة، ورئيساً لحكومة جنوب السودان، ونائباً أول لرئيس الجمهورية السودانية، وفقاً لترتيبات “اتفاق نيفاشا”.

جاء هذا الانتقال ليبرز تحولاً في طبيعة القيادة، من شخصية تحمل مشروعاً فكرياً وحدوياً مثل قرنق، إلى قيادة ذات خلفية عسكرية تقليدية وأكثر تركيزاً على الجنوب وقضاياه الخاصة، مما أسهم لاحقاً في تصاعد النزعة الانفصالية داخل الحركة، وتراجع خطاب “السودان الجديد” لمصلحة خطاب يركز على حق تقرير المصير وبناء دولة جنوبية مستقلة.

على مستوى البنية التنظيمية، شهدت الحركة إعادة هيكلة داخلية لترسيخ سلطتها في الجنوب، وتهيئة المؤسسات الحكومية الجديدة، كذلك شهدت صعود نخب سياسية وإدارية من خلفيات محلية وقبلية متباينة، مما خلق تحديات في التماسك القيادي والولاء التنظيمي.

بهذا، تحولت الحركة تدريجاً من حركة تحرير وطنية ذات مشروع إصلاحي شامل إلى كيان سياسي يدير إقليماً على طريق الاستقلال بمؤسسات وسياسات تعكس متطلبات الحكم أكثر من منطلقات الثورة.

7. من هم القادة البارزون بعد قرنق، وما أدوارهم المختلفة داخل الحركة؟

 برز سلفا كير ميارديت من قبيلة “الدينكا”، ورياك مشار من قبيلة “النوير” كنائب له وقيادي مؤثر، على رغم انقسامه السابق عن قرنق في التسعينيات. ويعرف مشار برؤيته الليبرالية ونزعته القبلية.

اعتمدت الحركة على القبيلة كمكون أساس مثلها زعيم الحركة نفسه، واستمر ذلك الوضع بعدما انشقت بعض المجموعات عن الحركة وجيشها، فقد كانت الانشقاقات تتم على أساس قبلي مثل الانشقاق الأكبر لمجموعة الناصر (نسبة إلى مدينة الناصر) بقيادة رياك مشار، ولام أكول من قبيلة “الشلك” عام 1991، وهو الانشقاق الذي ترك شروخاً في العلاقة بين مجموعة قرنق ومجموعة (مشار أكول).

أما باقان أموم من قبيلة “الشلك”، فقد انضم للحركة الشعبية أيضاً في الثمانينيات، ونشط في خدمة توجه الحركة اليساري، وعده كثر الرجل الثاني بعد قرنق، لذا يصنف ضمن مجموعة “أبناء قرنق”.

 تشكلت الحركة أساساً من أبناء قبيلة الدينكا، التي ينتمي إليها قرنق وسلفا كير، إلى جانب عناصر من النوير والشلك والقبائل الاستوائية الأخرى. حاولت القيادة الحركية بناء خطاب قومي جامع، لكنها واجهت تحديات عميقة في تحقيق التوازن الإثني، خصوصاً مع ازدياد نفوذ قبيلة الدينكا داخل المؤسسة العسكرية والسياسية، مما أدى إلى احتقان داخلي تطور لاحقاً إلى نزاعات مسلحة.

ورثت دولة جنوب السودان عند ميلادها عام 2011 نظاماً سياسياً هشاً، واقتصاداً يعاني ضعف البنية وتبعية مفرطة للنفط، إلى جانب نسيج اجتماعي معقد تسكنه مظالم تاريخية وانقسامات إثنية عميقة. وفي ظل هذا السياق المتأزم، سرعان ما تحولت الخلافات السياسية داخل “الحركة الشعبية”، الحزب الحاكم، إلى نزاعات مسلحة ذات طابع قبلي، إذ وجدت بيئة حاضنة لانزلاق الصراع السياسي إلى مواجهات إثنية، بسبب رسوخ الولاءات القبلية في مفاصل الدولة ومؤسساتها.

وجهت مجموعة “أبناء قرنق” انتقادات حادة لسلفا كير، متهمة إياه بتجريد الحركة من روحها التأسيسية، وفقدانها البوصلة الفكرية والرمزية التي منحها قرنق حضورها الوطني، مما أسهم في تحلل الهوية السياسية للحركة وتحولها إلى أداة للصراع القبلي بدلاً من مشروع تحرري جامع.

8. ما طبيعة الخلافات بين سلفا كير ورياك مشار، وخلفياتها؟

تعود جذور الخلاف بين سلفا كير ميارديت ورياك مشار إلى أعوام ما قبل انفصال الجنوب، لكنها بلغت مراحل مفصلية مع تحول “الحركة الشعبية” إلى حزب حاكم في دولة مستقلة. في يوليو 2013 أقال سلفا كير نائبه رياك مشار، إلى جانب كامل الحكومة، في خطوة اعتبرت محاولة لإحكام قبضته على السلطة وإقصاء منافسيه داخل الحزب والجيش.

في ديسمبر (كانون الأول) 2013 اندلعت شرارة النزاع المسلح، بعدما اتهم سلفا كير مشار بمحاولة انقلاب عسكري. وقد نفى مشار الاتهام، غير أن المواجهات تحولت إلى حرب أهلية شاملة ذات طابع إثني بين الدينكا والنوير، استمرت حتى توقيع اتفاق سلام هش في أغسطس (آب) 2015 بوساطة إقليمية، عاد بموجبه مشار إلى منصب النائب الأول، غير أن الاتفاق لم يصمد، ففي يوليو 2016 تجدد القتال العنيف في جوبا بين قوات الطرفين، مما اضطر مشار إلى الفرار مرة أخرى، لتدخل البلاد في مرحلة من التشرذم السياسي والانقسام العسكري.

تم التوصل إلى اتفاق سلام جديد في سبتمبر (أيلول) 2018، الذي عرف باتفاق “إحياء” اتفاق 2015، لكن التنفيذ تعثر مراراً. وفي فبراير (شباط) 2020 تشكلت حكومة وحدة وطنية جديدة، عاد فيها مشار نائباً أولاً، غير أن الخلافات في شأن توحيد الجيش وتقاسم المناصب وإصلاح القطاع الأمني استمرت، مع توترات متقطعة بين أنصار الطرفين.

 ولا تزال العلاقة بين الرجلين تتسم بالهشاشة والشكوك المتبادلة، مع تسجيل تأخر مستمر في تنفيذ بنود الاتفاقات الأمنية، في ظل تفاقم الأزمات الإنسانية، وغياب مشروع وطني جامع يتجاوز الأطر القبلية الضيقة التي لا تزال تحكم معادلة السلطة في جنوب السودان.

9. على ماذا راهنت “الحركة الشعبية” لحكم جنوب السودان؟

راهنت “الحركة الشعبية” في بداية تسلمها الحكم عقب “اتفاق نيفاشا” على النفط كمحرك رئيس للاقتصاد، معتبرة أن الموارد النفطية الواقعة بمعظمها في أراضي جنوب السودان ستشكل رافعة تنموية تمكن الدولة الوليدة من تأسيس بنية تحتية حديثة وتوفير الخدمات وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

شكل النفط أكثر من 95 في المئة من إيرادات حكومة دولة الجنوب آنذاك، وهو ما جعل الاقتصاد الناشئ ريعياً بامتياز، معتمداً بصورة شبه كلية على عائدات تصدير النفط عبر أنابيب تمر بالأراضي السودانية شمالاً إلى ميناء التصدير “بشائر” في شرق السودان. وبدلاً من تنويع القاعدة الإنتاجية أو الاستثمار في الزراعة التي يعد الجنوب غنياً بمقوماتها، أهملت القطاعات الأخرى لمصلحة الإنفاق على الجيش والأجهزة الأمنية والإدارية، في ظل تضخم مؤسسات الدولة الناشئة.

كما راهنت الحركة على أن الشرعية الدولية والدعم الغربي المرافق لاتفاق السلام سيوفران لها تدفقات مالية من المانحين، لكن تلك التوقعات لم تتحقق على النحو المرجو، لا سيما مع تفاقم الصراعات الداخلية بعد الانفصال، واندلاع الحرب الأهلية لاحقاً في 2013، مما أدى إلى انهيار شبه كامل للبنية الاقتصادية وتراجع الثقة الدولية وانقطاع معظم الموارد النفطية.

10. ما وضع “الحركة الشعبية قطاع الشمال” بعد الانفصال، ومن هم قادتها؟

بعد انفصال جنوب السودان واجهت “الحركة الشعبية قطاع الشمال” تحولاً جذرياً في موقعها السياسي والجغرافي، إذ أصبحت حركة متمركزة في السودان الشمالي، لكنها حافظت على الخطاب الأيديولوجي ذاته المرتبط بمشروع “السودان الجديد”، الذي يدعو إلى دولة قائمة على المواطنة المتساوية والعلمانية والعدالة الاجتماعية. تمركز نشاطها المسلح والسياسي في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (جبال النوبة)، وهما منطقتان كانتا من ضمن مسارح العمليات في الحرب الأهلية قبل “اتفاق نيفاشا”، وتضمان قواعد شعبية تقليدية للحركة.

قاد الحركة في هذه المرحلة شخصيتان بارزتان: عبدالعزيز الحلو، الذي تولى قيادة قوات الحركة في جبال النوبة، وكان من أبرز دعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وشكل لاحقاً جناحاً شمالياً علمانياً مستقلاً يطالب بإصلاح الدولة السودانية من موقع المعارضة المسلحة. ومالك عقار، والي النيل الأزرق السابق، الذي فضل التوجه نحو تسويات سياسية تدريجية مع حكومة الخرطوم، مما أدى إلى انقسام الحركة فعلياً عام 2017 إلى جناحين.

هذا الانقسام ألقى بظلاله على “مفاوضات جوبا” للسلام عام 2020، إذ خاض الحلو المفاوضات بشكل مستقل، مشدداً على تضمين مبادئ علمانية الدولة وحق تقرير المصير، رافضاً التوقيع على الاتفاق، بينما شارك جناح عقار ضمن تحالف “الجبهة الثورية”، وتوصل إلى اتفاق سلام جزئي مع الحكومة الانتقالية، ومع استمرار الأزمة الوطنية بقي قطاع الشمال بشقيه يمثل صوتاً معارضاً جوهرياً للتركيبة المركزية التقليدية للدولة السودانية.

اندبندنت عربية

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.