مرونة الفكر الليبرالي وجمود الفكر السوداني .. الأستاذ وإعوجاج القوس ..
طاهر عمر
الإقتصاديون وعلماء الإجتماع والمؤرخون غير التقلديين والفلاسفة يدركون أن الفكر الليبرالي يتعرض لهزات تكاد تقضي على مسيرته إلا أنه يخرج من كل تجربة صعبة أكثر قوة وأكثر حيوية في قدرته على معالجة ما يتجدد في وجه المجتمع البشري كظاهرة وهو الأقدر على ترجمة إيقاع معادلة الحرية والعدالة وهي تسوق مسيرة البشرية كمسيرة تراجيدية ومأساوية ولها القدرة على مجابهة المتجدد من المصاعب المتجددة التي تمسك بتلابيب بعضها البعض في صيرورة وفي تلازم بلا قسور مع تاريخ الإنسانية في إنفتاحه على اللا نهاية بعكس الهيغلية والماركسية في إعتقادهما في عقل يسوق نحو نهاية متوهمة للتاريخ وهيهات.
قوة الفكر الليبرالي تكمن في هشاشته مثل مقولة إستقامة القوس في إعوجاجه أو إعوجاج القوس هو إستقامته لما أريد له. ولهذا السبب يفوت على كثير من أتباع الشموليات من نازية و فاشية وشيوعية وحركات إسلامية كالحركة الإسلامية السودانية أن الفكر الليبرالي هش ويسهل القضاء عليه إلا أن التاريخ يقول أن الفكر الليبرالي هو تاج الإنسانية التاريخية والإنسان التاريخي وفي فضاءه تولد الشخصيات التاريخية وفي أيديهم يمسكون بمفتاح تاريخ الذهنيات المنتصر على تاريخ الخوف وما أطوله من سجل أي تاريخ الخوف وسط النخب السودانية وقد كسد فكرها؟
لهذا لم يزدهر في وسطهم غير فكر متصالح مع الخوف وعلاجه عندهم أن تسلك طريق الخلاص الأخروي ولهذا كثر عندنا أتباع المرشد ككيزان وأتباع الامام كأنصار وأتباع الختم وحتى الشيوعي السوداني نجده متواطي مع الخطاب الديني التقليدي بإيمانه التقليدي وفكره المنغلق ورأينا كيف كان عبد الخالق محجوب يبحث لدور للدين في السياسة وتبعه محمد ابراهيم نقد في حوار حول الدولة المدنية وخرج بعلمانية محابية للأديان إلا الأستاذ محمود محمد طه وقد مزّق سجل تاريخ الخوف من رفوف المكتبة السودانية وسار منتصر بإبتسامة عابر عبر تاريخ الخوف السوداني ونحو تاريخ الذهنيات ليصل الى مقام بروموثيوس عندما سرق نار الآلهة حين إستفزّه هوان الإنسان وهل كان هناك هوان يفوق هوان الشعب السوداني عندما مر تاريخ كساده الفكري بشريعة نميرى وكيزانه أي قوانيين سبتمبر؟
المحزن للغاية أن عبد الله علي ابراهيم في هذه الأيام يكتب في سلسلة مقالات محاولا رد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة وهذا عنوان مقالاته مواصل مسيرة تواطؤه مع خطاب الإسلام السياسي ونسى عبدالله علي ابراهيم بأن خطاب الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي قد تأهب للخروج من التاريخ بلا رجعة وقد رأينا كيف كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد قال بأن أفكار الحداثة والتنمية لا يمكن أن تكون في ظل خطاب الحركات الإسلامية وفكرها التقليدي وكذلك رأينا كيف أجبر مفكري تونس الغنوشي بأن يعترف بأنه صاحب عشرية فاشلة وقد وضعت نهايته ونهاية حركة النهضة التونسية فيا عبد الله علي ابراهيم تواطؤك مع الكيزان يجعلك كنافخ القربة المقدودة لن يرجّع الكيزان رغم حربهم العبثية ضد صنيعتهم الدعم السريع كأداة موت ولا حربهما العبثية تعني للشعب السوداني شئ.
وهنا نقول لك يا عبد الله علي ابراهيم أن حرب البرهان العبثية ضد صنيعته حميدتي تذكرنا بحروب نابليون ونابليون بالمناسبة قطع طريق الثورة الفرنسية الى حين ولكن حروبه ساعدت في إنتشار شعار الثورة الفرنسية مع إنتشار جيوشه في البلدان الأوروبية شفت مكر التاريخ يا عبد الله علي ابراهيم؟ وأقصد كما إنتشر شعار الثورة الفرنسية مع جيوش نابليون كقاطع طريق الثورة الفرنسية فأن حرب الكيزان البرهانية في السودان أكدت بأن لا حل للشعب السوداني غير الفكر الليبرالي والتحول الديمقراطي الذي يعني عقلنة الفكر وعلمنة المجتمع ولا حل غير قيم الجمهورية وفصل الدين عن الدولة ورغم أنفك لرد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة.
وعندما نقول التحول الديمقراطي وقيم الجمهورية أحسب كم من السنيين إحتاجت الثورة الفرنسية لتحقيق قيم الجمهورية ومواثيق حقوق الإنسان. وبعدها إنتهى الكاثوليك كيزان ذاك الزمن وإنتصر التحول الديمقراطي وأصبح الدين شأن فردي وأصبحت الديمقراطية والفكر الليبرالي زهرة يانعة لفكر قدمه عمانويل كانط في فكر أنثروبولوجيا الليبرالية وعنده الفورة مليون وليس همه كهمك بأن يكرمك الكيزان يا عبد الله علي ابراهيم كما ظهرت بوجه كالح يوم تكريمك من قبل خالد موسى دفع والسر السيد وغسان علي عثمان قبل سقوط الكيزان عندما كانت تحتهم خزائن الذهب.
بالمناسبة كان الكاثوليك كحالة عبد الله علي ابراهيم اليوم في وقوفه مع فكر الكيزان يظنون بأن الكاثوليكية وفكرها يمكن أن يحقق تحول ديمقراطي ولكن في مجتمع مثل المجتمع الفرنسي كان هناك توكفيل وقد قال لهم بأن لا حل غير عقلنة الفكر وعلمنة المجتمع وأن الدين ينبغي تجريده من أي قوة سياسية وقوة إقتصادية ويجب فصل الدين عن الدولة وحينها يصبح الدين عندما يجرد من قوته السياسية وقوته الإقتصادية يصبح شأن فردي ويصير أفق الرجاء للأنسان كفرد في علاقته بربه بلا وسيط من تجار الدين.
ونحن نسأل عبد الله علي ابراهيم أين فكر الكاثوليك الذي إنتقده توكفيل؟ وقال لهم بأنهم عاجزون بفكرهم أن يحققوا ديمقراطية كما يزعم مفكري السودان الآن في تحقيق ديمقراطية بأحزاب دينية أي كحزب الامام والختم والمرشد وهم لا يشبهون غير كاثوليك زمن توكفيل وقد تخطاهم الزمن ولم يبقى غير فكر توكفيل والغريب عبد الله علي ابراهيم لا يحتاج لقامة توكفيل وفكره نقول له أن ولي عهد السعودية بمشروع 2030م وإبعاده لرجال الدين وإزعاجهم قد تخطاك فكريا دعك من توكفيل يا عبد الله علي ابراهيم وخليك مع رد الإعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة وقد محى الأستاذ محمود محمد طه بفيض ضياء إبتسامة عباقرة الرجال ظلام محاكم العدالة الناجزة.
عند توكفيل أن الليبرالية ليست نظام حكم فحسب بل فلسفة تسعى لتحقيق العيش المشترك ولا يكون بغير فصل الدين عن الدولة ولذلك قد أصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني ولا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي بأحزاب دينية كما هو حاصل في السودان وسيطول درب الآلام في السودان ولكن في النهاية سيصل لتحول ديمقراطي بفضل وعي أجيال آتية من جهة المستقبل البعيد تدرك فكرة عقلنة الفكر وعلمنة المجتمع.
عبد الله علي ابراهيم في السودان من جيل يعاني من إلتباس في تحول المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة ومسألة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد جيل قد ذهبوا للحزب قبل الذهاب للكتب والنتيجة مثقف منخدع بماركسية ماركس لا يفرّق بين حربه ضد الإستعمار وحربه ضد الحداثة والتنمية ولا يدرك بأن معدل مستويات الوعي في العالم العربي والإسلامي بفضل تقدم تكنلوجيا الإتصالات وإرتفاع نسبة المتعلمين وإنخفاض الأمية في كثير من الدول العربية والإسلامية توضح بأن هناك علاقة عكسية مع خطاب الإسلام السياسي أي بالمختصر المفيد لا مستقبل لخطاب الإسلام السياسي الكيزاني في المستقبل البعيد. ولكن كعادته يراهن عبد الله علي ابراهيم دوما على الحصان الخاسر كما راهن من قبل على حصان الشيوعية كشمولية بغيضة ها هو الآن يراهن على حصان الكيزان والأكيد أنه خاسر.
بالمناسبة جيل عبد الله علي ابراهيم وأساتذتهم هم من أسسوا لفكرة أن تاريخ الفكر الليبرالي تاريخ يخص أوروبا ويمكننا في السودان تأسيس ديمقراطية بفكر ديني كما هو سائد ومعشعش في رؤوس نخب لا يعرف فكرها غير الحيرة والإستحالة في وقت في كثير من الدول العربية والإسلامية هناك علماء اجتماع وإقتصاديين عندما يتحدثون عن التحول الديمقراطي يعنون الفكر الليبرالي كما هو عند جون لوك وجان جاك روسو وعمانويل كانط ومونتسكيو بلا أي نقصان من فكرهم لأنه هو الأقدر على معالجة ظاهرة المجتمع البشري وما يؤرق مجتمعهم لأنه مجتمع من أفراد ولا يشغل بال الفرد غير الحرية والعدالة وفقا لقدرات العقل البشري.
من المفارقات العجيبة أن عقلانية الرأسمالية جاءت بسبب فكر الأقلية البروتستانتية وها هي تنتصر مع إكتشاف معادلة الحرية والعدالة وهنا أود أن أقول أن أغلبية النخب السودانية تؤمن ايمان العجائز بأنهم يستطيعون تحقيق ديمقراطية بأحزاب دينية مقابل أقلية تنشر فكر ينتصر لعقلنة الفكر وعلمنة المجتمع في السودان وكما إنتصرت أقلية البروتستانت وجاءت بعقلانية الرأسمالية ستنتصر الأقلية الخلّاقة السودانية في مطالبتهم بفكر يفصل الدين عن الدولة ويؤسس لعقلنة الفكر وعلمنة المجتمع.
ومن هنا نقول للذين يظنون أن الأحزاب الدينية داخلها أغلبية النخب السودانية هذا توصيف لا يعني أي شئ ونحن نقول لهم أن فكر الأقلية الخلّاقة التي تنادي بفصل الدين عن الدولة بشكل صريح لا لبس فيه سينتصر كما إنتصر البروتستانت كأقلية ومن هنا نقول مهما أجاد عبد الله علي ابراهيم اللعب بضيله أي ذيله مع الأغلبية السودانية فيما يتعلق بأحزاب وحل الفكر الديني لا يغير شئ فيما يتعلق بقدوم أجيال قادرة على التضحية بالهوية الدينية وقادرة على إدراك فكرة عقلنة الفكر وعلمنة المجتمع لأن حرب البرهان بجيشه الكيزاني ضد صنيعته الدعم السريع كأداة موت لا تشبه إلا حروب نابليون وكما قلنا أفي أعلى المقال من محاسن حروب نابليون رغم أنها قطعت الطريق على الثورة الفرنسية إلا أنها أدت الى إنتشار مبادئ الثورة الفرنسية مع إنتشار جيش نابليون في أوروبا وكذلك حرب الكيزان العبثية أكدت بأن لا حل للشعب السوداني غير التحول الديمقراطي.
في ختام هذا المقال لابد من الحديث عن مرونة الفكر الليبرالي وقدرته على الإقناع وكما قلنا أن قوته في هشاشته وتجاوزه للأزمات الإقتصادية والخروج منها أكثر قوة فمنذ أن فك ادم اسمث إرتباط الإقتصاد بكل من الدين والفلسفة هناك الكثير في سجل النظريات الإقتصادية وتاريخ الفكر الإقتصادي ونظريات اقتصاد التنمية تنتظر فك شفراتها لتصبح في سجل فكر النخب السودانية المتأخرة في إدراك الفلسفة السياسية والفلسفة الإقتصادية على أقل تقدير في القرن الأخير أي منذ الكساد الإقتصادي العظيم عام 1929م ويمكن أن تصعد بها لقرن كامل حيث يصادفك فكر توكفيل في الديمقراطية الأمريكية وكيف بداءت الليبرالية التقليدية في الأفول وبعدها بداءت خيوط ليبرالية حديثة لم تفهم حتى اللحظة من قبل نخب سودانية ما زالت تظن بأنها تستطيع تحقيق نظم ديمقراطية عبر أحزابها الدينية وهيهات في وقت أكد فيه توكفيل من قبل قرنيين بأن الدين شأن فردي وينبغي تجريده من قوته السياسية وقوته الإقتصادية لكي يصبح أفق الرجاء للفرد في مجابهة مصيره دون وساطة من تجار الدين من كل شاكلة ولون.
توكفيل في حديثه عن المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد أكد أنها انبعثت بسبب التطور الهائل بسبب الثورة الصناعية مما قد أصبح نواة للتفكير في مسألة الضمان الإجتماعي ومن هنا تكون توصيتي بأن التحول الديمقراطي في السودان لابد من أن تكون رافعته بعد وقف الحرب رؤية اقتصادية لمعالجة مسألة الإقتصاد والمجتمع وهي القادرة بأن تنمّي إدراك النخب بمسألة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد وهي نابعة من صميم الفكر الليبرالي في مسألة التدخل الحكومي كما نجده في الكينزية وهي تضع حد لليد الخفية لأدم اسمث واليد الحديدية للشيوعية كنظام شمولي بغيض ويصبح الضمان الإجتماعي أي الإستهلاك المستقل عن الدخل رمز لكرامة الإنسان وليس كما تعتقد الشيوعية في الإنسان نفسه بل تتخذه كوسيلة لتحقيق غاية متوهمة وهي فكرة إنتهاء التاريخ وهيهات.
نقل تجربة الغرب الصناعية يحتاج لتهية النخب السودانية بأن مجتمع ما بعد الثورة الصناعية لا يشغله الخطاب الديني بل تشغله الحرية والعدالة وبالتالي يصبح المجتمع مجتمع أفراد علاقة الفرد مباشرة بالدولة وليست بالطائفة ولا الجهة ولا العرق ولا الدين بل الفرد كغاية لأنه يرنو لقيمة القيم أي الحرية.
في ختام المقال نقول للأجيال الجديدة بأن تجربة النخب السودانية المشغولة بخطاب ما بعد الإستعمار كان فاشل في نقل المجتمع السوداني من مجتمع تقليدي الى أعتاب المجتمعات الحديثة التي لا ترضيها غير فكرة الدولة الحديثة وهي مجتمعات حتى في الدول الحديثة مرّت بأزمة الاسترليني وأزمة الفرنك الفرنسي وأزمة الدولار الذي بسببه إنتهت الكينزية كديناميكية إقتصادية وبعدها جاءت النيوليبرالية وقد خلفت خلفها فكرة التوجه نحو الحماية الإقتصادية في الثلاثة عقود القادمة وعلى الشعب السوداني أن يبداء مع الشعوب المتقدمة من جديد ديناميكية اقتصادية لها أدبياتها في النظريات الإقتصادية وتاريخ الفكر الإقتصادي وحمدوك هو أكثر اقتصادي سوداني جدير بقيادة الشعب السوداني الآن وهو يمر بأحلك حقبة في تاريخه وهو أقرب لفهم نمط الإنتاج الرأسمالي وبسبب مرونة الفكر الليبرالي فقد اقتنعت به كثير من الأحزاب الشيوعية في الغرب والأحزاب الإشتراكية وأحزاب الخضر أي قد أصبحت لا تضمر أي ضغينة لنمط الإنتاج الرأسمالي وهذا الذي قد عجز عنه الشيوعي السوداني وجعله يقدم مشروعه الجذري كحزمة أرنب غلبتها زادتها. وفي الختام طريق التحول الديمقراطي طويل جدا وربما يحتاج للتضحية بأجيال ولكن قد أصبح ممر إلزامي.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة