
مذبوحة على أيدي القتلة .. سقوط الإنسانية في امتحان السودان
فتح الرحمن حمودة
لقد أصبح الشر بريئاً من أفعال البشر، واختلطت الدماء بالخطابات المزيفة، وانكشفت الإنسانية بأنها سقطت في امتحانها الأخير، والضحايا وحدهم يكتبون البيان الحقيقي. فالجميع يعلم بأن الحرب ليست سوى مجرد خريطة تُرسم بخطوط من دماء الأبرياء، ولا هي مشهد متكرر تُعاد له تمثيليات البؤس تحت مسميات براقة كما يروج لها القتلة، فهي معصية جماعية تُرتكب بحق «ناس» لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون في مكان توقفت فيه الإنسانية عن العمل منذ 15 أبريل أو قبلها بعقود. وآخرها وربما ليس بآخر، «الفاشر» حيث تُرتكب جرائم لا تُمحى من الذاكرة، وتبني الأيدي الملطخة بالدماء على ركام المدنيين نهجاً من الوحشية لا يخفى على عاقل سوي. فالبشرية عبر تاريخها كانت قد أدانت القتل العشوائي، والاغتصاب كسلاح، وتمثيل الجثث، والتطهير على أساس عرقي وإثني وديني. فما نراه اليوم ليس فقط انتهاكاً أو خرقاً لاتفاقيات، بل هو تنكر لكل القيم التي تُسمي الإنسان إنساناً.
ومن يبررون ذلك باسم السياسة، «ومن ساس وسايس أو يسوس»، أو الأمن، أو التقديرات الميدانية، «باعوا الأرض بترابها»، هم ليسوا سوى سفراء الشر المباشر أو شريك صامت في الانتهاك. فالمنافقون كثيرون، فهناك من يدّعون استمرار الحرب علانية ويُعطون للعنف غطاءً أخلاقياً، وهناك من يرفضون الحرب باسم مزيف ويتصرفون بنفاق لا يمت للإنسانية بصلة، يُهدئون ضمائرهم بالتصريحات النمطية، بينما تضيق صدورهم عن رؤية اللاجئ، أو النازح، أو الأم الثكلى. فأين صوت الإنسانية عندما تُسفك الدماء؟ وأين قنوات الرحمة عندما تتحول الحارات إلى ركام؟ وكتب الأطفال صدورهم بآمال بسيطة، خبز، ماء، أمان، وها هم الآن لا يطلبون السياسة ولا الانتصارات، يطلبون قطعة خبز وسلاماً لا يقتل أحلامهم، أمر يُحرك اتهاماً حتى في قلب الظلام.
فلو أن الشيطان نفسه احتج، فقد احتج على هذه الجرائم ورفع يده مستنكراً: كيف تُستخدم الفظاعة كأداة شرعية؟ كيف تُستباح الأجساد والضمائر باسم أي حق؟. فالمدنيون صمدوا بكرامة لا تُقاس في خطوط الاقتتال وفي مخيمات النزوح، ينهض الناس بابتسامة مرة، يزرعون الأمل رغم قساوة الليالي. فالنساء حملن على ظهورهن جراح المجتمع، وهن يُعلّمن أطفالهن أن الحياة تستحق المقاومة بلا سلاح، مقاومة في الاحتفاظ بالإنسانية، في سرد القصص، في دفن الموتى بكرامة، وفي التمسك بذكرى من رحل. واللاجئون والنازحون ليسوا أرقاماً للإحصاءات، هم مواطنون أُجبروا على أن يصبحوا شهادة حية على فشل الضمائر، «دعوا ضمائركم تنطق».
ومع ذلك، تجد من يصفقون للمجزرة بمنتهى السخافة، ومن يهللون باسم زائف للسلام على جثث، أو يلعنون الكل، بينما هم أصغر من أن يدفعوا عن أنفسهم مسؤولية كلمة. فالتفنن في التنصل من المسؤولية أصبح الفن الأسود لأناس لا يعرفون معنى الأخوة الإنسانية، أولئك الذين يفخرون بجرائمهم ويُصرحون بأنهم «على حق»، وأي حق ذلك؟ هل الحق يُنصبه نصراً على تيتم؟ وهل تُبنى الأحقية على تمزيق الأجساد وطفولة مهدورة؟. الناس لا تريد إعلاناً نظرياً عن التعاطف، تريد موقفاً حقيقياً. ومن يدّعون السلام لكنهم يحتفون بالقتل في الخفاء أو الصمت، هم من يُبقون النار مشتعلة. ومن يدّعون استمرار الحرب باسم الانتقام، أو السلطة، أو الامتداد السياسي، هم من يزرعون الخراب لسنوات قادمة.
فالمنافقون لا يقفون على حدود ثابتة، يتجولون كجواسيس للشر داخل المجتمع، يُغيرون ملابسهم بالكلام ثم يركضون إلى المصانع التي تُصنع منها الأكاذيب، وتظل كل جريمة لها شهود. فالأطفال الذين فقدوا أباً أو أماً، والنساء اللائي تحولن إلى أرامل بلا سبب، والرجال الذين لم يعد لهم بيت يلجأون إليه، هؤلاء يظلوا الشهود. هم الذين يُعلّموننا أن الكلمة التي يجب أن تُقال الآن هي كفى، وكفى تبريراً، كفى تنميقاً للعنف، كفى سياسة تُبنى على دماء الآخرين، ولا سلام يُبنى على أسس الظلم، ولا مستقبل يُبنى على أرواح مُهانة. وفي النهاية يقول الناس بصوت واحد: الحرب مذمومة، والعيش في عمق الكرامة الإنسانية يفرض عليهم أن يقفوا صفاً واحداً مع الضحية، ويكشفوا كل وجه منافق يحاول أن يبيعهم العدم، ولن يُعطوا الحرب وسيلة لتغدو قانوناً، ولن يسمحوا لمن يفرحون بالموت أن يُعيدوا كتاباتهم على صدورهم. ولمن زلت قدمه في بحر المتاجرة بالدماء، يقولون إن الشيطان نفسه قد اعتذر منكم، فكيف تظنون أنكم لم تزرعوا له كيداً؟ نعوذ بالله منكم ومن كل من جعل من الحرب حرفة، ومن كل من حول الصمت إلى سواد على وجه الإنسانية.
المصدر: صحيفة التغيير