مدينة العلماء والأدباء (فاشر السلطان) تستغيث..!!
خالد أبو أحمد
جاء في الأخبار عصر السبت 18 أكتوبر أن سكان مدينة الفاشر يعانون من شدة الحصار المفروض عليهم إلى درجةٍ جعلتهم يأكلون جلود الأبقار، حسب إفادات السيد عبد العزيز سليمان مدير إدارة الثقافة والإعلام بحكومة إقليم دارفور، في حديثه لقناة (الحدث)، إنه خبرٌ صادمٌ ومؤلمٌ، أن يحدث ذلك في مدينة السلطان علي دينار التي طالما كانت أفضاله تتجاوز حدود دارفور والسودان لتصل إلى خدمة المسلمين في الأراضي المقدسة.
من خلال عملي الصحفي وتردّدي المتكرر على مدينة الفاشر، تشرفتُ بمعرفة الأديب الراحل الأستاذ جبريل عبد الله علي، أحد أبناء الفاشر البررة الذين جمعوا بين عمق الفكر وصفاء النفس، وحملوا على عاتقهم مسؤولية نشر المعرفة والجمال. أذكر أنه أهداني أحد مؤلفاته الأدبية، وكان بحقّ من الرجال الذين يفيضون أدبًا وتواضعًا ونُبلًا، وتغمرهم محبة الناس واحترامهم حيثما حلّوا.
وما نزلتُ ضيفًا على الفاشر إلا وزرتُه والتقيت به، فكان يستقبلني بابتسامة العالم المتأمل ودفء ابن المدينة المضياف. كان رحمه الله شديد الحرص على لقاء الصحفيين، خاصة أولئك الذين يحملون حبّ دارفور وإنسانها في قلوبهم، من أمثالي، كأنه كان يرى في كل صحفي صديقًا للفاشر ورسولًا لجمالها إلى العالم.
مدينة الفاشر، ما أدراك ما الفاشر!
من بين أعلامها البارزين المربي الجليل الأستاذ أبو حمد حسب الله عليه رحمة الله، الذي زامل أحد الرؤساء الأمريكيين في دراسته الجامعية بإحدى أشهر جامعات العالم.
وعن مدينة الفاشر العريقة كتب أحد شعرائها متغنيًا بمحاسنها وجمالها:
في هذي الربوع لنا حديث دياراً قد عشقناها رحابا
ديارٌ كان يقطنها (دينارٌ) هو الجبل الأشم على قبابا
هو الأسد الغضنفر لو تراهُ رأيت سميرها بطلاً مهابا
إذا ما هز صارمه فخاراً لمال جبال دنياك اضطرابا
له القصر المنيف إذا تراه رأيت الملك والأسد الغضابا
سقى الله الكريم ثراه عفواً وأمطره شآبيباً ثوابا
***
إن مدينة فاشر السلطان لها تاريخ وإيقاع ورائحة المجد والسؤدد، هي مدينة الأبطال الصامدين برغم الخذلان والمحن، وبرغم فقدان المروءة في زمنٍ صعب.
نحن الذين كنا وما زلنا نغني أغاني الحماسة والشجاعة، ونتغنى بالبطولة بكل معاني العز والفخر والشرف، صرنا اليوم نغضّ الطرف عنها ونتخاذل عن نصرتها، وكأنها لا تعنينا في شيء.!
إن أهل دارفور وحدويون أكثر منا جميعًا، يحبون كل السودان، لأنهم يدركون أن الدم السوداني واحد مهما تعاظمت الفتن والابتلاءات، وأن دماء أهل السودان قد اختلطت ببعضها البعض، لذا من المستحيل أن تنجح المؤامرات التي تريد فصل هذا الدم عن بعضه البعض، وهنا يذكرنا التأريخ القريب أن إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان كان يوم الاثنين 19 ديسمبر عام 1955م، حينما اجتمع مجلس النواب في الجلسة رقم (43) عند العاشرة صباحاً، وتبنى مقترح تقدم به العضو البرلماني عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة نائب (دائرة نيالا) بدارفور، وتمت تثنيته من قبل نائب دار حامد بدارفور أيضا الاستاذ مشاور جمعة سهل بإعلان استقلال السودان من داخل البرلمان، وبعيد آخر بالذكرى الرابعة لثورة ديسمبر المجيدة.
وفي هذا المعنى النبيل يترجم الأديب الفقيد الأستاذ جبريل عبد الله على روحه الوطنية في قصيدته الرائعة التي كتبها في منتصف ستينات القرن الماضي في وفاة السياسي المخضرم مبارك بابكر زروق (ولد 1914م وتوفي 1965).
ذلك الجيل المتميز من عظماء السودانيين لم يعرف المشاعر العنصرية النتنة التي تعشعش اليوم في بعض النفوس، بل كانوا أنقياء، صادقين، رغم اختلافاتهم السياسية.
القصيدة بعنوان (دمعة على مبارك زروق)، وقال في مقدمتها:
“الساعة السابعة والنصف مساء الإثنين 26/ 4/ 1965م توقف القلب عن النبض، ونسج الحزن أخياطه الحزينة على جسد الأمة السودانية، وذلك بفقد الابن الوطني البار مبارك زروق”.
ثم كتب يقول:
نيسان ضمك يا مبارك في المساء
إلى هناك.. إلى هناك …
نيسان أحزن أمتي بل هدها
والحزن.. كحلها رباك ..
خطفتك أيدي الموت من روض الحياة
ونحن نحرص.. بل نؤمل في بقاك ..
الكل يعتصر الأسى أضلاعه
والكل.. يفطره أساك ..
هذي الربوع بكتك ثم بكتك
ثم أسترسلت عبراتها ببكاك ..
ودعتنا يا خير من ودعتنا
ودعتنا.. وأهديتنا ذكراك ..
خلّدت عرشك بالنضال وبالكفاح
وبالجهاد.. مع العراك ..
قومت حصنك في الحياة بتضحيات
لامعات نائرات في سماك ..
السعي أنت صديقه.. والجد أنت رفيقه
والعزم سيفك في سراك ..
سطرت في (باندونق) آيات الخلود
لشعبك اللاهث وراك ..
وعزفت ألحان الصفاء لـ(آسيا) وشعوبها
وسقيتها كاسات هواك ..
توجت (أفريقيا) وقدت نضالها
أيقظتها وجذبتها.
فبكتك “قارتك الحبيبة يوم فقدك.”
بهذه المشاعر النبيلة كتب الأديب جبريل عبد الله علي ابن الفاشر، راثيًا السياسي اللامع مبارك زروق ابن مدينة أم درمان، تلك كانت أيام السودان الجميلة، حين كان السياسيون والأدباء والمفكرون صفوةً من الصفوة، يؤمنون بالوطن قبل كل شيء، واليوم، الفاشر التي أنجبت أديبًا فذًا مثل جبريل عبد الله علي والكثير من الأدباء والأفذاذ تتعرض لحصارٍ خانقٍ أودى بحياة كثير من أبنائها.
يدافع عنها فقط أبناؤها الأبطال من الرجال والنساء، في صمتٍ بطوليٍ يليق بتاريخها المجيد.
لقد كان الأديب جبريل أكثر من كتب عن مدينة الفاشر والسلطان علي دينار، في مقالاته وكتبه وقصائده الشعرية، ومن أروع ما قاله في مدح السلطان:
عشت يا دينار ذكرى للشهامات الرهيبة
ظل ذاك القصر يحكي كل أمجادٍ حبيبة
معركة سيلية كانت مَعْلَم الذكرى الخصيبة
…………
معركة سيلية كانت للبطولات اختبارا
سجل الأبطال فيها معجزاتٍ واعتبارا
كيف تغدو الأرض نهبًا للعدا .. دارًا .. فدارًا
والسيوف البيض تضوي للعلا تبغي افتخارا
……….
كنت يا دينار ذكرى للبطولات ازدهارا
سيفك المشهور يحمي في الملمات الديارا
رحم الله الأديب جبريل عبد الله علي، ورحم الله السلطان علي دينار، ورحم الله كل من بنى مجد الفاشر وسقاه من عرقه وإيمانه، ولتبقَ فاشر السلطان رمزًا وطنيا شامخًا، تصرخ في وجه النسيان والتخاذل.!.
السبت 18 اكتوبر 2025م
المصدر: صحيفة التغيير