محمد عبدالله ابراهيم

أسوأ ما في هذا “الرشيد” هو قدرته العالية على الكذب والنفاق وتزوير الحقائق، بل يستطيع تلفيق الأكاذيب وأن يصنع قصة كاملة من لا شيء، فقط من خياله، ويمكن ان يدفع أموال مقابل تزييف وتزوير كل ما يمكن ان يثبت اكاذيبه ويمكنه من ان يقنع بها الذين من حوله، وخاصة رئيس الحركة الشعبية مالك عقار، وكل ذلك في اطار ان يتحصل على منفعة او هدف خاص به.

في تاريخ الحركات الثورية، دائماً ما تتسلل إلى الصفوف شخصيات خبيثة، تتقن التخفي في عباءة النضال، لكنها في الحقيقة لا تحمل من الثورة سوى لسانها، أما القلب والضمير، فهما مرتهنان لغريزة التسلط وحب المؤامرة، والرشيد، كما عرفه كل من اقترب من دائرة مالك عقار، لم يكن سوى تجسيد حي لهذا النوع من الانتهازيين الذين يحترفون الكذب كما يحترف الصدق شعراؤه.

لم يكن الرشيد مجرد موظف في مكتب مسؤول رفيع؛ لقد كان شبحاً يتغذى على الفتن، ينسجها بخيوط الكذب والتلاعب، ثم يطلقها في أرجاء المكان ليصطاد بها ضحاياه، ولقد تضرر منه كثيرون قبل أن يتدثر برداء “الثقة المطلقة” في احضان مالك عقار، في مشهداً كأنهما خلقا ليكمل أحدهما أوهام الآخر؛ أحدهما مهووس بالكذب والمؤامرات، والآخر أسير لتصديق الوهم، ولقد وجد في ذلك الحضن ضالته التي تشبع نهمه للسيطرة والإفساد، حيث وجد في عقار الرجل المثالي لمخططاته، لا لأنه يشاركه ذات السلوك، بل لأنه رجل يثق بسهولة، ويصدق سريعاً، وحتى حين يدرك في قرارة نفسه أنه خدع، فإنه لا يقوى على مواجهته.

والرشيد يعرف كيف يصيغ الكذبة، يجملها، يضعها في سياق محبوك يجعلها قابلة للتصديق، بل وللتمجيد أحياناً، وفي مرات كثيرة، كان عقار يسمع منه أموراً يدرك أنها غير دقيقة أو لا تطابق الواقع، ولكنه يبتلعها كما يبتلع المريض الدواء المر، لا لشفاء ينتظر، بل لعجز عن الاعتراض، وأحيانًا، يكتفي عقار بالهمس في آذان البعض أن ما نقله الرشيد غير صحيح، لكنه لا يفعل شيئاً لتصحيح ذلك، ولا يضع حداً للخراب الذي يتسرب من تحت يديه.

هذه الخيوط الخبيثة التي ينسجها الرشيد صنعت مناخاً موبوءاً ومسموماً بين الرفاق داخل الحركة الشعبية، لا سيما في أوساط الحراسات المحيطة بعقار نفسه والمقيمين بين جدران المنزل الذي يسكنه، وتحولت علاقات الرفقة والأخوة إلى حقل ألغام، يزرعه الرشيد كل صباح بمكائد جديدة بين الرفاق، ويوقد نيران الشك والريبة بينهم، وهذه الفتن لم تكن مجرد خلافات عابرة، بل كانت مصائد حقيقية، تمزق النفوس وتكسر الثقة، ولم يكن الرشيد مجرد “فرد في الطاقم”، بل كان المتحكم المطلق في المنزل، صاحب القرار في الطعام والشراب والكهرباء وحتى أبسط النفقات …الخ، وكل من تجرأ على مواجهته أو سؤاله عن تقصير، وجد نفسه في دوامة اتهامات مختلقة، مؤامرات تحاك ضده، وأكاذيب ترسل بعناية إلى أذن عقار، الذي في غالب الأحيان لا يسأل، بل يهاجم ويقصي وينفذ، وينقض على الضحية دون تمحيص أو سؤال.

لقد غادر عدد من الحراسات بيت عقار، بسبب هذه الألاعيب الحقيرة، بعضهم طرد بناءً على مؤامرات وتقارير كيدية، وآخرون غادروا طواعية هرباً من تلك البيئة السامة الفاسدة التي لا تشبه القيم ولا المبادئ ولا حتى أبسط معايير الاحترام الإنساني، وكان المنزل يتحول أكثر فأكثر إلى مملكة صغيرة، لا يحكمها عقار، بل يحكمها الرشيد .. هو الذي يتقن لعبة التحكم .. يفتعل الأزمة ثم يقدم نفسه مخلصاً منها، يصنع الفوضى ويقترح الحل.

ولم يكن الأمر محصوراً في دائرة رفاق الحركة اوحراسات عقار فقط، حيث بلغ الأمر ذروته حين أصبح مالك عقار، عضو مجلس السيادة، غارق في تفاصيل تافهة لا تليق بمقام من يفترض به أن يناقش قضايا وطن ودولة وفي اضعف الايمان قضايا الحركة، حيث استدرجه الرشيد إلى الجدل حول “حصص الوقود وقائمة الطعام ..الخ”، ووصل به الحال أن يتصل ويتحدث بنفسه مع الناس في عدد من المواضيع الفارغة، لا سيما على ما اذكر مع عمال محطات الوقود، فقط لتأمين وقود عرباته الذي كان الرشيد يتهم افراد من حراسات عقار نفسه بسرقته، وكأن الدولة اختزلت في صفيحة بنزين!، وعلى الرغم من تم كل هذا كان يمكن تجنبه بقرار بسيط، او بتفويض موظف أو إداري، ولكن الرشيد يريد بذلك أن يبقي رئيسه في دوامة الانشغال العبثي حول التفاصيل الصغيرة التافهة، حتى لا يلتفت لما يجري حوله، ولقد جره فعلياً من قضايا الوطن إلى صراعات تافهة، فقط ليظل هو “الرشيد” صانع القرار، ومصدر كل معلومة، والظل الوحيد المسموح له أن يتحرك، حتى بات عقار لا يتحرك خطوة واحدة دون أن يستأذنه.

وفي مكتب عقار، كانت الصورة أكثر وضوحاً، ففي الوقت الذي كان فيه أعضاء مجلس السيادة يحيطون أنفسهم بطواقم مكتبية كاملة وفرق من الموظفين والمستشارين، كان مكتب عقار يضم شخصين فقط، والسبب؟ لا لأن الموارد شحيحة، بل لأن الرشيد أرادها هكذا، وأقنع عقار بأن لا أحد من الرفاق جدير بالثقة سواه، ورسم لكل رفيق تهمة، ولكل مرشح وظيفة شبهة، حتى بات يصف بعض الرفاق بأنهم “سكارى ومدمنو مخدرات”، فقط ليمنعهم من الاقتراب من دائرة القرار، ولم يكن يخشى عليهم من الفشل، بل كان يخشى على نفسه من المنافسة.

لقد نصب نفسه سكرتيراً ومديراً وكاتباً وطابعاً ومصوراً ومراسلاً ومحاسباً، وحتى مسؤولاً عن العلاقات الخرجية، ولم يكتفي بذلك، بل مضى إلى تعيين غرباء تماماً عن الحركة الشعبية في مناصب حساسة داخل مكتب عقار، واحد كمستشار، وآخر كمسؤول عن العلاقات الخارجية، بل ومنحهم بطاقات رسمية من مجلس السيادة! والأدهى أن أحدهم ضابط برتبة “مقدم” في قوات الدعم السريع .. أي عبث هذا؟ وأي خيانة سياسية تغطى بورق رسمي مختوم؟ .. و”سنكشف لاحقا عن هذا الموضوع بالتفاصيل”.

وفي ظل هذا العبث، وبينما كان الرفاق يكابدون الحياة، خاص العائدون من جوبا والنيل الأزرق وغيرها من مناطق الحركة، بعضهم بلا مأوى، وآخرون بلا لقمة، كان الرشيد يستأجر شقة مفروشة فاخرة في حي بري، مستخدماً اسم أحد الحراس في عقد الإيجار، زاعماً أنها “استراحة”، بينما الحقيقة كانت شيئًا آخر .. كانت الشقة ملتقى للهو والسهر والانحلال، ومكان يختلط فيه الرجال والنساء، تطفأ فيه الأنوار لتشعل رغبات لا علاقة لها لا بالحركة ولا بالمبادئ ولا حتى بأخلاقيات المشروع، وقالها لي صراحة، وهو يضحك مفتخراً بمتعة السلطة التي لم يكن يتوقعها: “تكون جوه البيت تمارس (….)، وبرة في الباب عربية بدوشكا بتحرسك!، “وسوف افصل الموضوع لاحقا .. من هم؟ وماذا كانوا يفعلون؟”.

هل يمكن لإنسان أن يقول ذلك؟ بل هل يمكن لمن حمل يوماً راية نضال أن يسقط هذا السقوط الكامل؟ .. لم يبقى في هذا الرجل شيء يذكر بالإنسان .. لقد سقطت عنه كل الصفات ولم يعد سوى ظلاً رديئاً يتقن المؤامرة ويمارس الانحطاط، ويقود الآخرين نحو الفشل، بينما يلوح في العلن بشعارات كبيرة جوفاء.

[email protected]

نواصل…

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.