فضيلي جماع

فضيلي جماع

يقول الثائر الأممي إرنيستو تشي جيفارا: (لا يزال الأغبياء يتصورون أنان الثورة قابلة للهزيمة!!)

ما بدأت مقالي بهذه العبارة لمواساة من حسبوا أن ثورة 19 ديسمبر السودانية قد طويت صفحتها. فما لمثل هؤلاء كتبت هذا المقال. إنما قصدت لأقول للملايين من أبناء وبنات وطننا أنّ الثورة كفعل إنساني ضد الظلم والاستبداد لا يمكن أن تنكص على عقبيها، أو تستريح ما لم تنجز مهمتها. وأن جريان نهر الثورة لا يخرج أبداً عن مجرى نهر التاريخ الذي لا يأخذ خطاً مستقيماً أبداً. فالصعود والهبوط، والانتفاضة والسكون بين الفينة والأخرى شأن حركة التاريخ. هل قرأ المحبطون وأصحاب الأمنيات الصغيرة العاجلة بعض صفحات عن ثورات الشعوب حولنا؟ فلنفتح صفحات أحد كبريات ثورات التاريخ المعاصر أعني الثورة الفرنسية التي تمخضت إثرها قيم الحداثة والتمدين اليوم.

اندلعت شرارة الثورة الفرنسية في 1789، ووصلت ذروة انتصاراتها في 1799م بإلغاء النظام الملكي الإقطاعي وقيام النظام الجمهوري. وطوال تلك السنوات العشر ما استكانت فورة الشعب الفرنسي، أو هدأت قليلاً إلا لتجدد فورانها وغليانها. لكن لا بد من القول إن الثورة الفرنسية لم تسر بين الجماهير طوال العشر سنوات لو لا نشر الوعي الذي قاده نخبة من المفكرين والأدباء، وعلى رأسهم فولتير (1694 1788) الذي شجعت أفكاره وكتاباته الساخرة الشعب الفرنسي للثورة على النظام الملكي والإقطاع وحليفتهما الكنيسة. وطبعاً شارك في الاستنارة والوعي مفكرون وفلاسفة عظام من أمثال السويسري من أصل فرنسي جان جاك روسو صاحب مشروع العقد الاجتماعي الذي صار مرجعاً في إنشاء الدولة المدنية الحديثة دولة المساواة في الحقوق والواجبات. ومن بين المفكرين الذين آمنوا بكتاباتهم لانتشار الوعي بين الجماهير مونتيسكيو وجون لوك وتوماس هوبز.

لا يعني السرد المختصر أعلاه أنّ المراحل التي مرّت بها الثورة الفرنسية وما أنجزته من إلغاءٍ للنظام الإقطاعي وإعلان الجمعية الوطنية، ثم إعلان الجمهورية لا يعني كل هذا أن ميزان الثورة كان خالياً من الأخطاء الفادحة وإغراق الساحة بالدماء. لذا لم يكن غريباً أن تلد الثورة في مرحلة من مراحلها عسكرياً ودكتاتورا أغرق فرنسا في حروب داخل أوروبا انتهت بعودته من شتاء روسيا القارس بما تبقى له من جيش مهزوم. وليلقى نابليون مصيره منفياً بقية عمره في جزيرة هيلانة. والثورة الحق لا تكافئ من غدر بها!

نعود لما بدأنا به حديثنا، من أنّ الأغبياء وحدهم كما يقول الثائر الأممي تشي جيفارا هم الذين يتوهمون أن الثورة قابلة للهزيمة. يعتقد كاتب هذه السطور وكثيرون سواه أن الحرب القبيحة التي تدور رحاها لأكثر من عامين في السودان، أوقد نارها من قضت ثورة ديسمبر على أوهامهم بمواصلة نهب خيرات البلاد والتمكين لأقلية ليست أقل فساداً وإتجاراً بالدين عن الكنيسة راعية الإقطاع في أوروبا وفي فرنسا بالذات. ولو نظرنا إلى الثورات في قارتنا البكر أفريقيا لرأينا أنّ ثورة شعوب جنوب أفريقيا ضد التمييز العنصري (أبارتايد) لم تنتصر بين عام وعامين. قضى نيلسون مانديلا ورفاقه سبعة وعشرين عاما بين روبين آيلاند وسجن فولتر.. وقضى عشرات الثوار حتفهم ومنهم ستيف بيكو قبل أن يشرق فجر الحرية في جمهورية جنوب أفريقيا، وتولد الدولة النموذج، حيث بناء أطر العدالة والمساواة، وحيث السعي بكل جد واجتهاد لإقامة دولة لا امتياز فيها للون أو العنصر أو الدين. الكل متساوون أمام القانون ون في جمهورية جنوب أفريقيا. من أجل هذا ناضلت شعوبها، وحق لها الانتصار والسعي بكل ما تملك اليوم، لتحتل موقعها في صدارة دول قارتنا ودول العالم.

إنّ سكون وجريان وتأرجح واعتدال مسيرة الثورة، تحكمه معطيات وأدوات تختلف باختلاف الزمن الذي انفجرت فيه كل ثورة. فما يملكه ثوار ديسمبر اليوم من أدوات جراء توفر وسائل الاتصال في عصر الإنترنت والفيمتو سكند لم يكن متوفراً لثوار فرنسا وجنوب أفريقيا وغيرهم من الثوار. بل إنّ شباب ديسمبر يملكون اليوم من أدوات التواصل والتنظيم وبناء الخلايا وإشعال فتيل الثورة في القرى والمدن ما لم يكن متاحاً للثورات التي ذكرنا في لب هذا المقال. لذا فإن من الحكمة أن يتسلّح الثوار بالوعي ونشر الوعي بين الناس العاديين الذين هم ملح الأرض وصانعي التحوّل عبر التاريخ. فالشوارع التي انحدر من جنباتها طوفان الثورة صبيحة يوم 19 ديسمبر 2018 م تتأهّب لمواصلة فعلها في قلب الموازين وكتابة عنوان جديد لفجر أكثر إشراقاً. وإن دم شهداء هذه الأمة، ونواح أراملها والجوع والتشريد والقتل الوحشي الذي لطخ كتاب تاريخ هذه الأمة، وإقامة بيوت الأشباح وصناعة الجوع وقصف وحرق القرى والاغتصاب و……. وقرقعة السلاح ودويّه فوق رؤوس الأمهات والأطفال والعجزة والمرضى.. بينما يرفع القاتل أصبعاً للسماء، وهو يصيح منتشياً: (الله أكبر)! كل أفعالكم هذه شهادة إثبات بأنكم تجيدون حياكة الشر والفشل والتخلف. وهي أدوات ضد التمدين والحضارة وصنع الحياة!

خذوها منّي: ثورة ديسمبر مثل كل ثورات التاريخ المعاصر، غير قابلة للهزيمة. رأيتها في وجوه وهتافات أكثر من سبعمائة سوداني وسودانية في قاعة ضمت مؤتمرين في أديس أبابا قبل عام. كاد سقف القاعة يطير تحت هتاف: (حرية، سلام وعدالة.. مدنية خيار الشعب)! ورأيتها قبل شهر ونصف الشهر متجذرة في حناجر شابات وشبان شقت هتافاتهم عنان السماء في مدينة كمبالا عاصمة يوغندا، وقد كنت ضيفاً في دار (حارسات قيم الثورة) التي ضاقت ساحتها العريضة وحديقتها بالكبار والصغار في تلك الأمسية. لم يهتفوا فحسب، بل حوروا العبارة الأخيرة في ديباجة هتاف الثورة أن قالوا: (مدنية قرار الشعب) وليس (مدنية خيار الشعب) فضلاً.. هل رأيت عمق الفارق بين العبارتين؟

مرة أخرى أقول للذين أشعلوا نار هذه الحرب لإطفاء جذوة ثورة من أكبر الثورات الشعبية السلمية في عصرنا:

إن شعبنا صانع هذه الثورة يسعى مع وجهة نظر التاريخ، بينما أنتم تجدون عكس التيار. وسيربح شعبنا الجولة. فشتّان بين مسارين!!

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.