محمد سليمان مشروع مفكر
صديق محيسي
لم اكن اتصور ان يجىء يوم من الأيام اضيف فيه صفة الراحل على محمد سليمان عبد الرحيم , ولم يخطر ببالى ولو لحظة طيلة سنوات معرفتى به انه سيغادرنا الى غير رجعة والأعمار بيد الله , كما لم يكن فى بالى ابدأ ان يتحول محمد سليمان من مسكنه الرحيب خلف صحيفة الوطن , ثم النجمة الى السكن فى مسيمير وهو سكننا المنتظر جميعا , فلا استثناء فى خواتيمنا اجمعين .
بدأت بسكن محمد الرحيب لكونه لم يكن نزلا للعيش والراحة فحسب , ولكنه كان منتدى فكريا لكل قضية , وباب مشرع لقصاديه فى اى وقت , ومنبر ثقافى تجده جاهزا حتى من غير رواد .
تعرفت على محمد سليمان فى تسعينات القرن الماضى , وكان ذلك بمبادره منه سمع بأسمى وقرأ لى وانا صحافى فى الإمارات , وعند مجيىء الى الدوحه احتفى بى وقدمنى لأصدقاء جددا لم التقيهم من قبل , وتلك صارت سنة متواصلة عنده لكل وطنى ذوى موقف مع الحرية وضد الأستبداد , فهذا البيت بيت محمد شهد الأحتفاء بشخصيات لكن ليس من مختلف المشارب , احتفى بمنصورخالد, كلما زار الدوحة وكان مناسبة لبحث قضية الوطن واستزاده من منجم فكر مثله واحتفى بالخاتم عدلان حامل مصباح ديوجين ومجدد فكر التغيير , وكمال الجزولى حارس ابوب الوطن يترك الفندق ويختار بيت محمد ضيفا شفيفا يأتى اليه الأصدقاء ليسمعوا منه الشعر والتحليل الرصين , ومحمد سعيد القدال عبق التاريخ وخزينة ألأحداث الكبرى , والباقرالعفيف شفاه الله شارحا احوال البلد , ومصطفى خوجلى طبيب السياسة ورائد رفض الديكتاتوريات , ومصطفى سيد احمد ملك الغناء الجديد وحيدر ابراهيم داعية تحويل المشافهة الى افعال , ومحجوب شريف وحميد , كان بيت محمد سليمان منصة يطل منها كل من كان قلبه على السودان , تجلس معه يطوف بك فى شعاب الفلسفة والتراث قارئا نهما لكل اصدار جديد فى عالم الفكروالتاريخ , واذا تحدث الناس عمن يصنع الأحداث ويعطيها من قدراته العقلية تجد محمد سليمان فى مقدمتهم , فهومثقف عضوى لايكتفى بقول الرأى النظرى فقط , ولكن كان يتبعه دائما بفعل مادى , يحول الفكرة الى فعل , ويتابع الفعل حتى يتحقق من انه ادى غرضه.
فى عام 1997م ونحن نستعد لأصدار صحيفة الفجرالمعارضة فى بريطانيا , جاء محمد والخاتم عدلان والباقر العفيف الى اسمرا ليعتمد تنظيمهم عضوا فى التجمع الوطنى الديمقراطى وليقيموا معسكرا لمقاتلى الحركة ولكن رئيس التجمع وعدهم ولم يوف بوعده وبينما كان اعضاء التجمع مشغولون بالصراعات بينهم , كان محمد سليمان مشغول بتوزيع البطاطين وملابس الشتاء للنازحين السودانيين الهاربين من نظام “الأنقاذ” فى معسكر اقامته الأمم المتحدة فى اطراف العاصمة اسمرا , الكثيرون لايعلمون ان عبدالرحيم كان احد اهم مؤسسى حركة القوى الديمقراطية الجديدة ر”حق ” , كتب مع الخاتم عدلان مشروعها الفلسفى للتغير السياسى ونظامها الأساسى , بل وبعد رحيل الخاتم استمر هو مفكرا للتنظيم , وموجها ومشاركا له فى كل نشاطاته السياسة , وقد يندهش الكثيرون من ان محمدا كان يدفع ايجار دار التنظيم ونشاطاته فى الخرطوم اثنين لسنوات من جيبه الخاص , وانه كان يرسل مصاريف شهرية الى طلاب جامعيين اعضاء فى التنظيم لموصالاتهم ومشاركات التنظيم فى المناسبات السياسية.
كان محمد سليمان كاتبا مقتدرا محيطا بموضاعاته يضع الفكرة فى الجملة فتعطى معنى محددا غير قابل للتأويل, ومترجم متمكن من اللغة الأنجليزية كتمكنه من العربية , يرتب افكاره لتعطى سامعيها اقناعا مدعوما ومثبتا بالأدلة والبراهين , استضافنى محمد فى منزله شهورا عدة , وكنت قريبا منه دخلت فى كيمائه وعرفت مايحبه ومايكرهه كان يبدأ يومه وهو مستلق على اريكتة الصديقة فى صالونه ممسك بكتاب او رواية , هاتفه لايكف عن الرنين يستمع الى محتاجون من السودان يطلبون المساعدة , او اسداء الراى فى مشكلة , كثيرون كانوا يرون فى محمد سليمان جفاف فى الطبع وغلظة فى القول وهوا انطباع خاطىء لمن لايفهمه فهؤلاء لم يقتربوا منه , حكموا عليه بظاهرة وتركوا باطنه , لم يفكروا فى الدخول اليه كانوا اذا صبروا سيعثرون على نبع من الطيبة , والشهامة والأنسانية , وهذه حكمة تقول لا تحكموا على الناس بأشكالهم .
كتب عن زميله أمين محمد إبراهيم. المحامي.
(نعاك اليوم الناعي فرجعت ذاكرتي عقودا الي الوراء لأستحضار صورتك يومها واحدي مواقفك المحفورة في ذاكرتي وذاكرة كل من عاش أحداثها. كان يوما من ايام العام ١٩٧٥م على الأرجح. حيث تركنا فناء الجامعة بعد المحاضرات وعدنا إلي الداخليات وثمة حركة دؤوبة لجهة ما تنشط في قهوة النشاط .. عدنا ألي الداخليات وما أن فرغنا من تناول طعام الغداء وتوجه كل منا إلي داخليته لأخذ قسط من الراحة ، حتى شق صوت المايكرفون الهدوء الذي كان يسود داخليات البركس وغيرها من الداخليات في ساعات القيلولة من اليوم. َوكان المنادى هو القيادي في الجبهة الديمقراطية وطالب كلية الآداب وقتها الراحل محمد سليمان عبدالرحيم وكان يستنفر القاعدة الطلابية أن هلموا واحموا جامعتكم ومنابرها من تغول عملاء سيئ الذكر الاتحاد الاشتراكي وجهاز أمنه. وسرعان ما هرع الجميع الي فناء الجامعة حيث وجدوا مناصري نظام مايو الإستبدادي وقد إستغلوا غياب الطلاب في فترة قيلولتهم وشيدوا معرضا كاملا لرمز الدكتاتورية والاستبداد الاتحاد الاشتراكي..
هجم الطلاب على معرض الإتحاد الاشتراكي وازالوا منكره بأيديهم وكان شعارهم لن نسمح لمن يحظر حريتي التنظيم والتعبير ويصادر تلك الحقوق خارج أسوار الجامعة أن يتمتع بها داخل اسوارها..
وكان للجبهة الديمقراطية ولقائدها وحامل مايكرفونها الراحل محمد سليمان الدور الأكبر في حشد وتجميع الطلاب وتحريضهم لصد هجمة الاتحاد الاشتراكي تلك وإفشال سعيه للتسلل لداخل الجامعة لقمع حراك تنطيماتها وقواها السياسية..
بالطبع غاب الكيزان اتحادا وتنظيما عن معركة إجلاء عملاء أمن الاتحاد الاشتراكي غيابا تاما حتى انجلت المعركة وفر أعضاء الإتحاد الإشتراكي من فنائها مدحورين. فما كان من صبية الإتحاد الإشتراكي إلا أن عادوا بليل للانتقام ممن طردوهم وأجبروهم على الفرار ، من قهوة النشاط ، فأضرموا النيران في كامل المنبر الذي طردوا منه شر طردة.
في صباح اليوم التالي ، لم يجد إتحاد الكيزان ما يفعله سوي إصدار بيان يتهم فيه الجبهة الديمقراطية بحرق قهوة النشاط .. وتساءل البيان بخبث الكيزان المعهود عن بقية قنابل الملتوف واين ذهبت؟؟! في إشارة واضحة إلى إستخدام كوادر الجبهة الديمقراطية لقنابل الملتوف من على سطح كلية الأداب لكسر مقاومة المدافعين عن المعرض من عناصر الإتحاد الإشتراكي ، الذين إستقووا بعضوية التنظيمات السياسية الجنوبية التي كانت توالي نظام مايو وتدافع عنه بعد إتفافية أديس ابابا لسنة ١٩٧٢م لمحض أسباب عنصرية تاخذ إطارا سياسيا زائفا..
و في المساء أقام منبر الجبهة الديمقراطية ندوة تحدث فيها من نفس مكبر الصوت الذي كان يحمله الراحل محمد سليمان في ظهيرة ذلك اليوم عدد من قادة تنظيمها منهم الأستاذ الراحل الخاتم عدلان مخاطبين الطلاب عن الاحداث فقال الراحل الخاتم ما معناه الكيزان إضطروا لأن يتهموا الجبهة الديمقراطية بحرق النشاط لأنها تذكر الطلاب بخزي غيابهم وخذلانهم لقضايا الطلاب المصيرية. فالجبهة الديمقراطية في غياب الكيزان وأتحادهم بادرت بالتصدي مع الطلاب لحماية منابر الحرية و الديمقراطية في الجامعة. والعقل والمنطق يقولان أن من يحمي المنبر هو آخر من يكون له مصلحة في حرقه وتدميره ، بل أن العقل والمنطق يقولان أن من حرق النشاط هم الذين طردوا منه شر طردة. ولكن الذين غابوا عن معركة طرد أحبابهم عملاء في الاتحاد الاشتراكي وعملاء جهاز أمنه لم يكفيهم خزي وعار غيابهم وتخلفهم عن المعركة بل أضافوا الي ذلك عارا أخرا هو اتهامهم الجبهة الديمقراطية بحرق النشاط ، مع علمهم أن الذين حرقوه هم صبية الاتحاد الإشتراكي ، بسبب طردهم منه مدحورين. فأطلق الراحل الخاتم وبسخريته المعهود عبارته التي أضحكت الجمبع في تلك الليلة وهي: (في حب يا أخونا أكتر من كدا) ! سلام على روحي المناضلين الراحلين (محمد سليمان والخاتم عدلان) ، وكتب عنه صديقه وزميله فى جامعة الخرطوم محمد الحسن محيسى ، هذه ذكريا ت اثنين وخمسين عاما , لقد سبقت محمد سليمان بدفعتين فى جامعة الخرطوم وكان اول ملاحظناه عنه نشاطه الجم وحماسه واخلاصه فى كل مايوكل اليه من عمل وما يتميز به من وفاء , ويبدو ان هذ الصفات طيلة حياته , الحق محمد للعمل فى تحرير الجريدة الحائطية اليومية الت تضدرها الجبهة الديمقراطية كان محمد شعلة من النشاط وكنا نلتقى يوميا مع زملاء اخرين لتحرير الجريدة لم تكن لدينا ميزانية لدينا ميزانية معروف للجريدة وكانت مصروفات محمد الشخصية جزء كلفة تحريرها كان دائما ينجد المحررين باوراق الفولوسكاب والبوستر والاقلام واحيانا بالشاى والقهوة , وكان محمد شديد الحماس لمعتقده السياسى , شديد الدفاع عنه , وكثير ما كان يشتبك مع اى تيار يمينى وكان ولعا بالأطلاع فى السياسة وفى الأدب وفى الأثنين انجز انجازا سيحفظه له التاريخ , كان محمد يتميز بوضوح فكرى لاتشوبه شائبه لذلك نادرا ماتجده يأتى الى مقر الجريدة وانما ينتحى جانبا بورقة وقلم ويكتب المقال الذى يريد ونادرا مايحتاج الى مراجعته وكان محمد يتميز باخلاص عظيم فى نشاطه السياسى قد نمت بينه صداقة حميمة حتى وفاته وان محمدا تولى امر الجريدة الحائطية اليومية ونهض بمسئوليتها ألخلاص الذى عرف عنه ثم تفرقنا فى الأغتراب ولكن ظللنا على اتصال بالهاتف وكنا ننسق اجازاتنا لنلتقى الصديقين العزيزين الراحلين خاتم عدلان وخالد الكد فى لندن نطير اليها من صهد الخليج وصيفه القاسى , وتلك كانت اجمل ايام حياتنا , محمد به شىء من السخرية فى الحديث تصاحبها ابتسامه خفيفه ربما يحقق بها وقع كلماته , قلت ان محمدا ظل وفيا لصداقاته خاصة القديمة منها , وانقطع الأتصال به بعض الوقت وازعجنى انه لم يرد لى رسائلى الأخيرة فأ تصلت بعز الدين حمد سائلا عنه , فقال لى ان محمدا اجريت عملية فى القلب وهو طريح الفراش , وبالفعل اتصل بى هو فى اليوم التالى من سرير المستشفى بصوت واهن ضعيف وقبل ان اساله عن حاله باردرنى بالسؤال عن صحتى انا , رحم الله محمد سليمان وادخله فسيح جناته , فقد كان عالما من الثقافة والشجاعة والود والمحبة للناس) .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة