دكتور الوليد آدم مادبو

من الجاهلية إلى الإسلام، لم يُعَدّ النسيب نقيصة، بل ركنًا من أركان القصيدة. “*بانت سعاد*” أشهر قصيدة في مدح الرسول (صلى) نظمها كعب بن زهير، مطلعها غزلي صريح في امرأة، ومع ذلك لم يعترض عليه الرسول، بل ألبسه بردته، فدخل الإسلام بالشعر وروى الحديث. *كانت المرأة هنا رمزًا للغياب، والخوف، والوصال المتعذّر.* لم يكن المطلع جسدًا لتقريظ اللذة، بل جسدًا لتوطئة المجاز، لمقدمة البلاغة. وهل لنا من بلاغة دون مقدمة؟ (اللوحة أعلاه للفنان إبراهيم الصلحي).

*أن تُبنى المرافعة على استعارة الجسد المجازي، فيُستنطق بها الواقع السياسي السوداني فذاك من جمال الحيلة الأدبية ومن فقه الحرية*. وإني في مقالتي، التي افتتحتها بإشارة حسية للجسد الأنثوي، لم أكن طائشًا ولا شهوانيًا، بل كنت، على خطى الذين سبقونا، أهيّئ المتلقي لرحلةٍ من الجسد إلى الرمز، من الشهوة إلى المعنى، من “الدرع الكاعب” إلى الوطن الذي نكتب عنه بقلوبنا العارية من الخوف.

لقد أرادوا أن يحاكموا مقالتي (*قرناص: عار الدولة ولذة الطاعة*)، لا لأنها فجَّرت فتنة، بل لأنها تجرّأت على استدعاء الجسد، واتخذت من “التخلص” البلاغي بوابة للخلاص من محاكمات الحرف.

من حيث الفكرة والبناء فقد مارست حقي في أن أستهل نصًا سياسيًا بلغة جسدية، لا طلبًا للغواية، بل تأسيسًا للمعنى واستكمالًا للرحلة من الخاص إلى العام، من الحسيّ إلى الرمزيّ، دون أن أقع في وحل الابتذال ولا هاوية التشهّي.

بل إن *عبد الله بن عباس*، حبر الأمة، كان في الحرم المكي يتدارس القرآن مع أصحابه، فلمّا دخل عليهم عمر بن أبي ربيعة القرشي في طيبه وحريره، قال له ابن عباس، وكان يستجيد شعره رغم طابعه المكشوف: *أفلا أنشدتنا “أمن آل نعمٍ أنت غادٍ ومبكر”؟* فأنكر عليه الفقيه نافع بن الأزرق من الخوارج، وكان يرفض كل لهوٍ أو مجاز.

لا غرو، فإن *حوار بن الأزرق مع ابن عباس*، الذي ورد في مصادر عديدة منها “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني و”البيان والتبيين” للجاحظ، *سيظل يعكس جدلية مبكرة بين “التحريم الحرفي” و”التذوق التأويلي” في الثقافة الإسلامية*.

البيت الأخير من *رائية عمر بن أبي ربيعة*، يُبرز فيه كيف صار الجسد الأنثوي “درعًا” رمزية لبلاغة الذات، أي أن الشاعر يختتم قصيدته كما يخرج المقاتل، لكن دون عنفبل بحيلة المجاز: “*خرجتُ وكان درعي كاعبًا ومعصر*”. ذلك هو الشاعر، وتلك هي الدرع التي نرتديها نحن الذين نكتب بالخيال لا بالفتوى، بالمعنى لا بالمباشرة، نراوغ الزمن بالحيلة البلاغية ونفلت من نصوص الرقابة بـ”تخلّص” شعري كما تخلّص العرب الأوائل من غزل إلى فخر، ومن نسيب إلى مديح، دون أن يسقطوا في الفجور ولا أن يقعوا في هاوية الخطابة الجوفاء.

وفي تراثنا، ما يدلّنا على أن العارف لا يُحاكم المعنى، بل يتذوقه. وها هو الطاهر بن عاشور، وهو إمام وفقيه ومفسّر، يشرح ديوان بشار بن برد، الشاعر الأعمى، الخليع، المتهم بالزندقة. بل إن أبو عمرو بن العلاء، أحد القراء السبع، كان يستجيد شعر الأخطل، نصرانيّ دميم اللفظ أحيانًا، نديم الخلفاء، لا ليتفقّه فيه، بل ليتذوّق الجمال. *كانت العرب تعرف حتى زمنٍ قريب أن الشعر أو النثر حين يتحدّث عن جسد، لا يُخاطب العورة، بل يُخاطب المُخيّلة*.

ولماذا نذهب بعيدًا؟ أليس نزار قباني قد كتب عن جسد الأنثى كما يكتب عن الجغرافيا؟ حين تكون الحبيبة دمشق، فإن النهد يتحول إلى مئذنة، والخاصرة إلى شارع، والشَعر إلى خريطة دم. من ديوان “الرسم بالكلمات” وغيره، *استخدم نزار قباني الجسد الأنثوي كمجاز للوطن، والعلاقة الحميمة كرمز لعلاقة المواطن ببلده*. كان نزار، كعمر بن أبي ربيعة من قبله، يعرف أن اللغة قادرة على احتواء النهد والخريطة في استعارة واحدة، لأن الجمال السياسي يبدأ من استعارة جسدية.

وكذلك الخمرة، أيها السادة، لم تكن يومًا في عيون الشعراء العارفين شرابًا من عنبٍ أو دَنّ، بل كانت عندهم رمزًا لسُكرٍ أعلى، وانخطافٍ نحو المطلق، حتى قال ابن الفارض، سلطان العاشقين:

*شربنا على ذكر الحبيبِ مدامةً*
*سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرمُ*

فهل كان يقصد خمر الكروم؟ أم أنه تذوّق، في ساعة صفاء، نشوة لا تسكن الكأس، بل تسكن القلب إذا ذاب في الذكر؟ لم تكن هذه خمرًا تُراق على الأرصفة، بل وجدًا يسري في الأرواح كما يسري المجاز في بيتٍ محكم. والشيوخ الذين شرحوا ديوان ابن الفارض، كعبد الغني النابلسي، لم يتّهموه بالسكر، بل قالوا: هذه *خمرة العشق الإلهي*، والكرم هاهنا ليس الكرمة بل الكرم الأزلي الذي أفاض النور على العارفين.

ختامًا، أيها السادة القابعون على ضفة المعنى، المتأهبون بسياط القانون لمحاكمة اللغة، رويدكم، *فإن ما بين الكلمة والكأس، بين النهد والمعنى، بين التنهيدة والنص، ليس درب غواية، بل درب بلاغة*. إن النصوص لا يتم التحري فيها، بل تُقرأ بالفهم، وتُؤوّل بالبصيرة. وإن المجاز حين يُقتاد إلى المحاكم، فإن الذي يُحاكم حقًا ليس الكاتب، بل روح الأمة نفسها. فلا تنصّبوا أنفسكم قضاة على الخيال، ولا تُفتّشوا في كلماتنا كما يُفتّش الرقيب في ضمير القصيدة. دعوا الأدب حرًا، كما وُلد. فهو لا يزدهر إلا في مناخات الحرية.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.