حسن أبو زينب عمر
ضحكة مجلجلة وشعر منكوش وهندام أقرب الى الفوضى ونتوءات في الوجه لا تخطئها العين. هكذا عاش الشاعر الغنائي أبو أمنة حامد بملامح وجه يحمل تفاصيل وسامته ولسان يجري بالسخرية وجسد أرهقه الترحال في دنيا عاشها فقيرا وغادرها فقيرا. الذي يستوقف هنا ان الجدية والروح الساخرة التي جبل بها شاعرنا المرهف الذي ينحدر من قبيلة (السمرأر) أحد مكونات البجا حيث نشأ وترعرع في هيا قبل الانتقال للإقامة في منزل عبد الله خليل في امدر مان لا تأتي بدافع الفكاهة والتنكيت بل هي ثقافة مؤصلة في جينات هذا القوم وربما لعبت البيئة القاسية دورا رئيسيا في نشأتها. المصداقية الأكثر هنا هي حكاية حقيقية تحولت الى نكتة مع فرق (تيراب وهمبريب) الكوميدية تقول إن أحد الأعراب جاء من البادية يحمل تحويشة العمر لتغيير العملة حسب توجيهات وزير المالية في بداية حكومة الانقاذ فسلموا له مبلغا أقل من مبلغ التوريد فرفض بشدة استلامه محتجا على الاجراء فحاولوا تهدئته بأن السبب يعود الى ضعف السيولة وانه سيحصل على بقية المبلغ قريبا فرد قائلا للمحاسب ( تجيب شريعة تلعب ملوص) .
(2)
غادر أبو امنة حامد للدار الأخرة، نظيفاً من الشبهات فقيراً الا من شجاعته وشهامته وسخريته التي لا تحدها حدود حتى مع أفراد أسرته ففي حوار جرى في بيته بالخرطوم بحري سأل أبو آمنة أحد الصحفيين الزائرين وقد وهن منه الجسم واشتعل الرأس شيبا هل تعرف أغنية و(شوشني العبير) التي يتغنى بها صلاح بن البادية؟ ..الاغنية دي أنا قلتها في المرا دي .. ثم أشار لزوجته فاطمة واستدرك ساخراً هسع أنا غيرتها وبقول: وشوشني العوير فانثنيت؟ فأكتفت فاطمة التي اعتادت على سخرياته بالضحك ثم خرجت.
(3)
لم يداهن أبو آمنة حاكما في حياته فحتى عبد الناصر الذي ألف عنه كتابه (ناصريون نعم) كان نابعا من ايمان عميق لحب صادق نحو ناصر فقال انه كتب عنه كمواطن وليس كحاكم حينما زار ناصر الخرطوم عقب نكسة حزيران 1967 محبطا ممزق النفس فانتشله من وهدة الاحباط ومرارات اليأس بقصيدة رائعة زادها جمالا وعذوبة حنجرة الفنان عبد الكريم الكابلي
مرحبا بالقائد المنتصر. مرحبا بالثائر المقتدر
والتقت نهضتنا بالعرب حين صافحنا جمال العرب
أنت يا ناصر في أرضي هنا لست بالضيف ولا بالمغترب
لم يكتفي أبو آمنة بذلك فقد قال لعمر الجزلي أن عبد الناصر استدعاه الى مكتبه عبر الكاتب محمد حسنين هيكل وهناك علم أن أبو آمنة أطلق على ابنه جمال عبد الناصر حسين خليل أبو آمنة حامد فسأله ناصر (ليه الهيصة دي كلها يا أستاذ أبو آمنة جمال كفاية) فرد عليه أبو آمنة قائلا (والله ياريس لو كنت أعرف اسمه جدك الخامس لكتبته) فانفجر عبد الناصر ضاحكا.
(4)
عاصرت أبو آمنة في مصر وكان يسكن مع زميله الفنان صالح الضي أثناء الدراسة طالبا في جامعة القاهرة وعاصرته في الخرطوم صحفيا في جريدة الصحافة أيام محمد الحسن أحمد ..عشت كل معاركه الفكرية على صفحات الصحف مع طه الريفي مراسل جريدة الصحافة في القضارف وقتها حول سيطرة اثنيات وافدة على الأرض حد الاحتكار ومع طه الكد في خلاف حول كتابات الدكتور عبد الله الطيب سيما حينما قال أبو آمنة انه يكتب للخاصة فتصدى له الكد بعبارات نابية لاذعة حتى فكر الشاعر للجوء الى القضاء وقد حدثني في هذا الأمر بضرورة التحشيد له حينما كتب الكد يقول بأنه لم يجد شيئا يرميه لأطفال شبه عراة كانوا يطاردون قطارا كان ينهب الأرض من هيا لتهاميام بحثا عن الهديب (حفنة خبز) سوى نسخ من ديوان (سال من شعرها الذهب) كان قد تسلمها من الشاعر لبيعها ولكنه لم يجد لها قراء راغبين .
(5)
كانت له مواجهات مع الإنقاذ تدعو للضحك في عمق الأزمة ففي الأولى عثر عليه الزبير محمد صالح وكان الرجل الثاني في الحكومة وهو يتجول في الشارع تنفيذا لقانون طوارئ فرضته السلطة في أول أيامها لضبط الأمن ..أوقف الزبير عربته العسكرية وطلب من أبو آمنة الذي لم يلتزم بالقانون الركوب معه فدخل في جدال مع الزبير وقال له أمامك ثلاثة خيارات لا رابع لها اما ايصاله الى بيته أو اطلاق سراحه أو توجيه طلقة الى رأسه من الطبنجة التي كان يحملها فضحك الزير كثيرا وأوصله الى بيته .
(6)
أما الثانية فقد نعته حكومة الإنقاذ أثر شائعات لم تتأكد من صحتها صحيفة الإنقاذ التي كان يترأس تحريرها وقتها موسى يعقوب وهي التي دعت المحامي عبد الباسط سبدرات وعلى لسان حسين خوجلي للذهاب الى بحري لأداء واجب بيت العزاء في رحيل زميله أبو آمنة ولكنه و في الطريق دخل أحد البقالات واشترى جوالا من السكر ودس مبلغا محترما في ظرف لتقديمه لأسرة الفقيد ولكنه لم يجد سرادقا للعزاء بل وجد (البعاتي) أبو آمنة حامد واقفا بشحمه ولحمه أمام بيته يقول له (أنا لا زلت حيا أرزق ياعبد الباسط وعلى بالطلاق ثلاثة الجبتو مابترجعو بيهو) . يقول عبد الباسط اننا تعانقنا طويلا وبكينا معا قبل أن أطلب من السائق تسليم جوال السكر الى الأسرة ودسست في يده المظروف المالي برفق ثم ودعته فأسرع ليقف خلف الباب فسألته وين ماشي يا أبو آمنة فقال بضحكة مجلجلة (ماشي أقيف ورا الباب أنتظر يمكن تجي ضحية ثانية) وأضاف مبررا (الناس ديل كتلوني ساكت معقول أطلع من المولد بدون حمص ؟) .
(7)
أما حكاية أبو آمنة ووزارة الخارجية فلو كانت هذه الوزارة تشترط القيافة والأبهة والاناقة في المظهر فهي تتعارض جملة وتفصيلا مع قناعات وسلوكيات رجل (بوهيمي) اسمه أبو آمنة حامد فقد كانت أكثر محطاته اثارة للضحك وشر البلية ما يضحك هي مأزق كوبري النيل الأزرق فقد كان الشاعر الغنائي الكبير في طريقه للعمل في الخارجية على متن سيارة تويوتا وكان يجلس كما جرت العادة على حوافها مع بقية الركاب وفجأة اكتشف ان السيارة الفارهة التي كانت وراء التويوتا هي سيارة وزير الخارجية وقتها الدكتور منصور خالد فأندس أبو آمنة وسط الركاب وهو يغطي وجهه وراء صحيفة كان يحملها حتى لا يراه الوزير الذي قال عنه عمر الحاج موسى للرئيس نميري في احتفال ضخم جرى في قاعة الصداقة (جاءت الجماهير لكي تحتفل بك وهي ترتدي الجلابية والعراقي والملحفة ومركوب الفاشر والسديري ومنصور خالد) .
(8)
لكن ولسوء حظ أبو آمنة توقفت حركة المرور بسبب عطل أصاب أحد السيارات فاحتمى بالجريدة فترة لا تقل عن الساعة لينجو بأعجوبة دون أن يدري أن الأقدار كانت تخطط لتوريطه في موقف أكثر حرجا مع وزير الخارجية الذي شاهد ومع دخول الوزارة أبو آمنة جالسا على كرسي متهالك وهو يحتسي الجبنة من أحد ستات الشاي فغضب واستدعاه وأسمعه محاضرة عن سلوك ومظهر الدبلوماسي وأخبره أنه ينبغي أن يرتدي أفخم الثياب من البدلات الراقية حسب ما يقتضيه الإتيكيت و الأعراف المتبعة فاعتذر أبو آمنة مشيرا انه لا يملك مثل هذه الأزياء فصدق الوزير له بثلاثة لبسات من البدل الفاخرة على حساب ميزانية الوزارة وبعدها لم يمكث أبو آمنة كثيرا في الوزارة وأغلب الظن انه لم يتلاءم مع متطلبات الاناقة والقيافة المطلوبة .
(9)
أمتع أبو آمنة المستمع السوداني بثنائيات أسكرت الزمان والمكان مع الجابري
الرهيف قلبوا بيعيش في شكو أكثر من يقينو
تستبيحو نظرة جارحة وتحترق بالحب سنينو
ما نسيناك ما جفيناك
جاي تعمل ايه معانا ..بعد ما ودرتنا
ومع سيد خليفة (جاري وأنا جارو) ومع ابن البادية (سال من شعرها الذهب ووشوشني العبير) ومع الكابلي (جمال العرب) ومع أحمد المصطفى (غريب) ومع محمد الأمين (رجع البلد) ولكنه تجلى مع وردي بقصيدة مجد بها حواء السودانية وارتقى بها الى مصاف الغيم محلقا بها فوق هامات السحاب (بنحب من بلدنا ومابره البلد سودانية تهوى عاشق ود بلد) ..فمن خصلات الهدندوية لشلوخ الشايقية وسماحة بنات جعل وحسناوات دار حمر ضاع وتاه أبو آمنة في الجمال الرباني الذي تغزل فيه من قبل إبراهيم العبادي اذ يقول (شوف حسن البداوة الما لمس بدرة ..الكاتلين الصفار أم نضرة الخدرة) . ولكنه ظهر فجأة في الجزيرة وهو يقول (يا ناس أرحموني أنا قلبي في رفاعة) .
(10)
استدعاه أحد زملائه في الامارات وكان وقتها رئيسا لتحرير صحيفة خليجية للعمل معه حينما علم انه عاطل عن العمل فجاء أبو آمنة الى أبو ظبي ولكنه لم يمكث أكثر من شهرين فهو أبن الخرطوم وابن أمدرمان وانه لا ينفع خارج السودان كما قال للجزلي .حاول رئيس التحرير اثنائه بكل السبل فرفض قائلا (يا أخي أنا مالي ومال شخبوط وسحنون ومكتوم ) فانتهى اللقاء الى طريق مسدود فوافق رئيس التحرير على رحيله ولكن بشرط التوجه لأثيوبيا أولا واجراء حوار مع الرئيس الأثيوبي وقتها منقستو هايلي مريم وحجز له تذكرة سفر من دبي الى أديس أبابا ثم الخرطوم وأعطاه 10 ألف دولار مقابل التحقيق .
(11)
لكن أبو آمنة كان له رأي آخر فقد ذهب الى الخطوط وحول الحجز من دبي الى الخرطوم مباشرة بدلا من أديس أبابا وفيما كان رئيس التحرير ينتظر التحقيق على أحر من الجمر كسبق صحفي تسلم رسالة لم تكن في الحسبان من أبو آمنة تقول (والله دولاراتك وقعت لي على جرح .. صلحت حمام البيت ورحت الزريبة وجبت خروف حمري ماكن وسهرت مع الشلة شيه وطرب وغنا حتى الصباح ..سلام) فكتب رئيس التحرير يقول ان أبو آمنة لا يمكن أن يكون الا أبو آمنة . رحم الله على حامد على ايلا أدم المشهور بأبو آمنة بقدر ما أمتعنا بشعره وبقدرما أضحكنا بقفشاته الساخرة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة