طارق يسن الطاهر

 

وقفات تحليلية لأغنية “الطير الخداري” للشاعر “إسحاق الحلنقي”

ــــــ

كلمات الأغنية:

قول لي يا طير الخداري

قول لي وحـــياة حبنا

وين رسايلك يا حــــليلا

وين عـــيونك منــــنا

يا حليل كسلا الوريفة

الشاربة من الطيبة ديمه

كم أسر فنان جمالها

خلّى قلبو عليها غيمه

ساب ديارنا وفاتنا يا طير

مالو فــــــات أهلو وديارو

والفراق بتقول عيونو

قسمة ما كانت باختيارو

يلا لتوتيل نزورها

والجبل نسعان خدارو

حتى السواقي بكت معاي

شاركت في وداع قطارو

فارق أرض القاش وروح

خلا أرض القاش حزينه

قدر ما حولنا نكتم جرحنا ونسكت بكينا

تاني ضحكتو يا حيلها

بتملا بيتنا زهور وزينه

يا حبايب الريد قطارو

أخروهو شوية لينا

ـــــــــــ

التحليل:

ـــــــــــــ

تأتي الطيور إلى مدينة كسلا، ويُعَد مجيئُها إعلانا بتباشير موسم الأمطار، وهي طيور تختلف في أنواعها وألوانها وأصواتها وأشكالها، وقد سمّاها أهل كسلا بأسماء محلية مستوحاة من شكل الطير أو لونه، أو غير ذلك، ومن الطيور حمد أب سيف، وجنة جنة، ومن أكبرها وأكثرها ارتباطا بموسم الأمطار طير السمبر …

ومنها الطير الخداري؛ لأن لونه كان أخضرا، ونحن في عاميتنا نقلب الضاد دالا : أخضر أخدر

في أغنية الطير الخداري ما يسمى بأنسنة المخلوقات، بمعنى أن يعد الشاعرُ الجمادَ أو الحيوان أو النبات كأنه إنسان يعقل، يخاطبه ويطلب منه، ويحدثه، وينتظر منه ردا:

حتى السواقي بكت معانا

وشاركت في وداع قطارو

فهذه المشاركة الوجدانية من السواقي، وهي تبكي وتشارك في وداع القطار الذي حمل المحبوبة.

استخدم كثير من الشعراء السودانيين القطارَ في قصائدهم؛ لأنه هو الذي يرحل بالحبيبة، فيزداد شوقُهم ويتوهج تولُّههم، وهو الذي يأتي بالحبيبة، فيزداد فرحهم مع قلق حين يحسون بتأخره أو بطئه:

ومن ذلك:

قطار الشوق متين ترحل تودينا

نشوف بلداً حنان أهلها ترسى هناك ترسينا

ففي قصيدة “طير الخداري” للشاعر إسحاق الحلنقي إحساس جارف بالألم الذي نتج عن وداع المحبوبة وسفرها، فأصبح القطار رمزا للتفريق بين الأحبة:

يا حبايب الريد قطارو

وقفوه شوية لينا

خلدت أغنية الطير الخداري في العقل الجمعي للسودانيين عامة، ولأهل كسلا خاصة، وخلدت معها عبارات وكلمات سارت بها الركبان، ومن ذلك عبارة :

الشاربة من الطيبة ديمة

و

الجبل نعسان خدارو

وكذلك رسخت كلمات من الأغنية أصبحت لقبا لمدينة كسلا مثل:

الوريفة

فالتصقت باسمها فأصبحت كسلا الوريفة.

كما أن تراكيب في الأغنية أصبحت رمزا مثل: الطير الخداري، الذي صار رمزا لمدينة كسلا

ولأن كسلا مدينة تجلى فيها جمال الطبيعة، فقد احتشد النص بكلمات تمثل الحقول الدلالية للطبيعة، ومنها:

الجبل، توتيل، القاش، السواقي، غيمة…

تبرز في القصيدة صور شعرية بديعة تتلاءم مع جمال الموصوف، وهو مدينة الجمال كسلا، ومن تلك الصور:

الجبل نعسان خدارو

فقد وُصفت الأعين الجميلة بالناعسة؛ بسبب ثقل جفونها ونعومتها، كما قال الشاعر أحمد شوقي:

يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى أبداً أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم

وكذلك اخضرار جبال كسلا في موسم الامطار يشبه ذلك، فهو جمال في جمال.

ومن الصور البديعة:

تاني ضحكتو يا حليلا

بتملا بيتنا طيور وزينة

هنا صورة عميقة تبرز إحساس الشاعر بفقد ضحكة الحبيبة التي كانت تملأ أرجاء المكان ألقًا وبهاء وجمالا، وهنا مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ إذ ذكر الشاعر الضحكة، ويقصد المحبوبة صاحبة الضحكة المجلجلة.

مخاطبة الطير في الشعر السوداني كثيرة جدا، ومن ذلك رائعة صلاح أحمد إبراهيم التي تغنى بها وردي: الطير المهاجر، حيث يقول:

بالله يا طير

قبل ما تشرب تمر

على بيت صغير …

وكذلك أغنية:

يا طير يا ماشي لي أهلنا

بسرعة وصل رسايلنا

والشوق ما تنسي ياطاير

كل من يسألك عنا

قوليهم عن عهدي مازلنا وما زلنا

كل الشعراء العشاق والمشتاقين للوطن يحمّلون الطير رسائلهم؛ لأن الطير يهاجر ويسافر بدون جواز سفر ولا تأشيرة، ولأنه سريع التنقل والارتحال، ولأن نفس الشاعر تواقة؛ فالطير رمز للحرية والانطلاق…

وهنا إسحاق الحلنقي لم يختلف عنهم، حين خاطب الطير الخداري الذي قلت عنه في قصيدتي “زهرة الأفياء”:

هذا الخداريُّ طيرٌ ظَلّ يعشقه أهل الوريفة عشقًا غيرَ مُقتَتَسِم

تراه يطرب من “حســـــانَ” ينشده شدوًا رقيقا وشعرًا جِـــــــــدُّ ملتزمِ

فقال الحلنقي:

ﻗﻮﻝ لي ﻳﺎ ﻄﻴﺮ ﺍﻟﺨﺪﺍﺭﻱ

ﻗﻮﻝ لي ﻭﺣﻴﺎﺕ ﺣﺒﻨﺎ

ﻭﻳﻦ ﺭﺳﺎﻳﻠﻚ ﻳﺎ ﺣﻠﻴﻼ

ﻭﻳﻦ ﻋﻴﻮﻧﻚ ﻣﻨﻨﺎ

في القصيدة وصف بديع انتقل من المكان إلى مَن حلّ بالمكان، وهم أهل كسلا، فقد وصف السودانيون جميعا أهل كسلا بالطيبة، وانتشرت عبارة:

ناس كسلا ناس طيبين

هنا يرسخها الحلنقي حين يقول:

ﻳﺎ ﺣﻠﻴﻞ ﻛﺴﻼ ﺍﻟﻮﺭﻳﻔﺔ

ﺍﻟﺸﺎﺭﺑﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻴﺒﺔ ﺩﻳﻤﺔ

ثم يؤكد حسن خلق أهل الوريفة حينما يبيّن سلامة صدورهم، وأنهم يحبون الخير للغير:

نحن ناس بنعيش حياتنا الغالية بالنية السليمة

وكل زول دايرين سعادتو تشهد الأيام عليمة

ينتشر التضاد في المعاني والمواقف والمشاعر في النص؛ فهناك سفر وإقامة، ضحك وبكاء … وتبرز المفارقات في قوله:

ﻭﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺑﺘﻘﻮﻝ ﻋﻴﻮﻧﻮ

ﻗﺴﻤﺔ .. ﻣﺎ ﻛﺎﻥ باﺧﺘﻴﺎﺭﻭ

أي إن الحبيبة ليست راغبة في السفر، ولا تعمّدت الفراق، وإنما كان قسمة وجب أن ترضى بها، لأنها ليست باختيارها.

تشيع في القصيدة حيوية مطلقة بسبب التساؤلات والحوار الذي يوجد فيها، ومن ذلك:

مالو فات أهلو وديارو

و

قول لي يا طير الخداري

والحيوية في القصيدة ملائمة جدا لمضمونها؛ فهي تتحدث عن سفر وترحال.

والكناية في القصيدة لها مكانتها العظيمة، ودورها الواضح، ومن ذلك الكناية عن موصوف في قول الشاعر:

فارق أرض القاش وروّح

و”أرض القاش” كناية عن موصوف وهي كسلا، فالقاش نهر يمثل مظهرا من مظاهر هذه المدينة الجميلة، وقلت عنه:

والقاش عربد في الآفاق منفلتًا يهدي الحياة ويعطي وافر النعم

ثم أتوقف عند موطن بديع من مواطن الجمال في القصيدة:

ﻭﻛﻢ ﺃﺳﺮ ﻓﻨﺎﻥ ﺟﻤﺎﻻ!

هنا “كم” خبرية تدل على الكثرة أي كثير من الفنانين أسرهم جمال كسلا، وهنا تقديم وتأخير؛ إذ قدم المفعول به “فنان” وأخّر الفاعل “جمال” واختيار الشاعر لكلمة “فنان” تحديدا فيها توفيق عجيب، وذلك أنّ كسلا هي مدينة الجمال، والفنان هو أكثر شخص معنِيّ بتذوق الجمال؛ لأنه يستهويه أكثر من غيره، ومن ناحية أخرى أن جمال كسلا من تميزه يأسر الفنان أي يجعله أسيرا لهذا الجمال، ولا يستطيع فكاكا عنه، وهذا واضح جدا وجليٌّ تماما في كثرة المبدعين الذين كتبوا عن كسلا حين أسرهم جمالها حتى لو لم يكونوا من أبنائها.

ﻭﺧﻠﻲ ﻗﻠﺒﻮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻏﻴﻤﺔ

جعل الفنانُ المبدعُ قلبَه غيمةً تظلل كسلا الوريفة، وتحلق هائمة فوقها، لا تبارحها، بل تهطل عليها بالشعر والكلام الجميل، كما تهطل الغيمة على الأماكن ماء.

ثم يستنجد بشركاء المحبة وإخوة الريد، بأن يعينوه على أن يوقفوا القطار، ويمنعوا سفر المحبوب:

يا حبايب الريد قطارو

وقفوه شوية لينا

وشتان ما بين حال شاعرنا الذي يسعى لمنع سفر محبوبته وإيقاف القطار، وحال الذي يريد أن يصل القطار بسرعة؛ ليلقى محبوبته، فذاك يحث على وقف القطار، وهذا يحث على تسريع الخطى:

و لو تعرف غلاوة الريد كنت نسيت محطاتك

وكان بدّرت في الميعاد وكان قللت ساعاتك

و كان حنّيت علي مرة وكان حركت عجلاتك

إنها كسلا ملهمة الشعراء، فكيف بابنها الحلنقي الذي وُلد في هذا الجمال، ورضع من هذه الطبيعة الخلابة، ونشأ بين هذا البهاء العظيم.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.