متى تنتهي الحرب؟ السودانية , اخبار السودان
شمائل النور
سؤال يفتح الباب أمام الأسئلة الكبرى التي يجب طرحها، الآن وليس غداً، بصرامة وطنية وأخلاقية، تزجر هذا العبث الذي اتخذ أعلى تجلياته في 15 نيسان/ أبريل.. أين الأمن والدفاع اللذان يحوزان على نصيب الأسد من ميزانية البلاد منذ سنوات على حساب التعليم والصحة، وعلى حساب كل شيء؟ أين تذهب كل هذه الأموال، إذا لم تكن لحماية وأمن المواطن؟
قبل نحو عام قابلتُ ضابطاً رفيعاً في قيادة الجيش السوداني، هو الآن في قلب العمليات العسكرية. طرحتُ عليه سؤال المواجهة هذا: كم من الزمن يحتاج الجيش للحسم مع “قوات الدعم السريع” في حال وقعت مواجهة مسلحة، وهل ستكون عملية محدودة أم أن الأمر قد يخرج عن السيطرة؟
أذكرُ جيداً أنّ رده جاء بكل زهوّ العسكرية، مؤكداً أن الأمر لن يحتاج إلاّ إلى ساعات معدودة وبخسائر لا تُذكر. سألته كيف؟ قال لي بكل بساطة إن جميع مواقع “الدعم السريع” معلومة لدينا بإحداثياتها وأن ضباطنا (يقصد ضباط الجيش) هم قيادات “الدعم السريع” العسكرية، بمعنى أنّ ولاءهم للجيش لا ريب فيه. لخص لي إذاً العملية في: “حصار بالتزامن على مواقع الدعم السريع ثم إرغام على التسليم”.
أما وقد وقعتِ الواقعة، فقد اتضح أن مُحَدِّثي قد غرق في استبساطٍ مخلٍّ بقدرات الخصم الاستخبارية والعسكرية، بل بطموحه السياسي الجامح، حيث تشارف حرب الخرطوم بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” على إكمال شهرها الثاني من غير حسم يلوح في الأفق، وسط استفهام المواطنين عن الوضع الحقيقي للجيش بما يخص ما جرى في 15 نيسان/ أبريل وبعده.
تكمن أهمية هذا السؤال في ارتباطه بشكل وثيق بمصير الناس واحتمالات العودة إلى الوضع الطبيعي، خاصة لدى سكان الخرطوم الذين توزعوا بين بعض العواصم القريبة وولايات السودان المختلفة، بينما لا يزال بعضهم داخل الخرطوم يكابد الحياة بين الرصاص والغلاء المفرط والندرة، حيث يشهد اقتصاد البلاد تدهوراً غير مسبوق. وقدّر بعض الخبراء تكلفة المعارك الدائرة بنحو نصف مليار دولار يومياً، وذلك اعتماداً على حجم الخسائر ومعوّقات النمو الاقتصادي وتعطيل الخدمات والمرافق الحيوية في البلاد.
الجيش الذي لا نراه في الشارع
وسؤال ما المصير أو متى العودة الى الوضع الطبيعي، أقسى مواجهةً من ويلات الحرب نفسها، ففكرة أنك لا تعرف ميعاد العودة لبيتك أو عملك أو حتى استعادة حياتك الطبيعية والنوم بشكل هادئ بعيداً عن دك المدفعية الثقيلة أو أزيز الطيران الحربي، هي فكرة بائسة تماماً. هو سؤال الباحث عن أمل العودة للوضع الطبيعي أكثر من أماني الحسم العسكري التي يتوق لها مشجعو الحرب، وما هم ببالغيها.
والإجابة على هذا السؤال تفتح بالضرورة الباب على مصراعيه أمام الأسئلة الكبرى التي يجب طرحها، الآن وليس غداً. لا ينبغي لمثل هذه الأسئلة أن تخلو من صرامة وطنية وأخلاقية تزجر هذا العبث الذي اتخذ أعلى تجلياته في 15 نيسان/ أبريل.. أين الأمن والدفاع اللذان يحوزان على نصيب الأسد من ميزانية البلاد منذ سنوات على حساب التعليم والصحة، وعلى حساب كل شيء؟ فعلياً أين تذهب كل هذه الأموال، إذا لم تكن لحماية وأمن المواطن؟
السؤال فرضَهُ الواقعُ غير المصدَّق الذي تعيشه الخرطوم منذ الانفجار، حيث تحولت المدينة، مركز البلاد، وخلال ساعات محدودة إلى تحت رحمة عناصر “قوات الدعم السريع” ومع غياب شبه كامل للجيش من الشوارع. المشهد باختصار، يمكن وصفه بالقول إن الجيش قد حصّن نفسه داخل وحداته وترك المواطنين في مواجهة “الدعم السريع” الذي انتشر بكثافة في أحياء مدينتي الخرطوم وبحري وبعض أحياء أم درمان كانتشار النار في الهشيم، والذي روّع، انتهك، سرق، قتل واغتصب وأخرج الناس من بيوتهم من غير حق وحولها لثكنات عسكرية، وتحولت مدينة بحري بشكل خاص إلى مدينة عمليات عسكرية للدعم السريع.
الواقع ليس فقط فشل الجيش في حسم المعركة حتى بعد اقترابها من الشهرين، رغم أن إعلامه الرسمي والمساند في الأيام الأولى كان يضع سقفاً زمنياً محدداً بالساعات، مبشِّراً الناس بالنصر. الواقع الأشد هو أن الجيش رغم ابتداره للحرب الكلامية مع “الدعم السريع”، والتي اشتعلت لأكثر من شهرين قبل الانفجار، إلا أنه لم يكن مستعداً لمواجهة مسلحة. يتجلى هذا في سرعة إحكام قوات الدعم السريع في السيطرة على مواقع حيوية دون خسارتها حتى الآن، واعتقالها لقيادات بارزة في الجيش.
وإحكام “قوات الدعم السريع” قبضتها حول الخرطوم بالفعل حدث منذ الفترة التي تلت سقوط البشير في 11 نيسان/ أبريل 2019 ، حيث حصلت تلك القوات على وضع مميز بالسماح لها بالانتشار الاستراتيجي حول الخرطوم وداخلها والسيطرة على كل مقار “حزب المؤتمر الوطني” المُحل، وبعض مقار جهاز الأمن. وقد حدث ذلك وسط مباركة وتباهي قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بـ “قوات الدعم السريع” التي تمكنت بشكل غير مسبوق في عهده.
المشهد باختصار يمكن وصفه بأن الجيش قد حصّن نفسه داخل وحداته وترك المواطنين في مواجهة “الدعم السريع” الذي انتشر بكثافة في أحياء مدينتي الخرطوم وبحري وبعض أحياء أم درمان، والذي روّع، انتهك، سرق، قتل واغتصب وأخرج الناس من بيوتهم بدون حق وحوّلها لثكنات عسكرية، وتحولت مدينة بحري بشكل خاص إلى مدينة عمليات عسكرية ل”الدعم السريع”.
سؤال اللحظة الآن هو سؤال الاستحقاق الوطني، الدستوري والأخلاقي أيضاً، وهو واجب الجيوش في حماية مواطنيها. الجيوش التي تحوز على نصيب الأسد في ميزانيات البلدان على مدى سنوات، وتملك اقتصاداً مستقلاً لا تجد وزارة المالية طريقاً إليه: حدث تجريف كامل لمؤسسات الدولة لصالح المؤسسات الموازية، طال حتى شروط الخدمة في الجيش، وليس الآن فحسب، بل منذ سنوات خلت.
ما حدث في 15 نيسان/ أبريل الماضي فرض تساؤلات كثيفة، من المؤكد أن كثيرها سيظل بلا إجابات إلى أن تنتهي المعركة. ما حدث في ذلك اليوم هو فاصل مرحلي مهم في تاريخ الدولة السودانية، قطعاً سيُكتب عنه بتفصيل وعمق بعد انجلاء الصدمة: صدمة الأهوال العظيمة التي حدثت في الخرطوم.
سؤال الاستحقاق الوطني.. الواجب
غير أن سؤال اللحظة الآن هو سؤال الاستحقاق الوطني، الدستوري والأخلاقي أيضاً، وهو واجب الجيوش في حماية مواطنيها. الجيوش التي تحوز على نصيب الأسد في ميزانيات البلدان على مدى سنوات، وتملك اقتصاداً مستقلاً لا تجد وزارة المالية طريقاً إليه.
صحيح أن هناك من يشاهد بكل ألمٍ، كيف أن جيشاً بلغ من العمر عتياً منذ تأسيسه، لا يقوى على حسم قوة أُسست لتكون رديفة له أو مسانِدة. هذا الأمر رغم صحته إلا أنه ليس بهذه البساطة، على الرغم من تنفذ الجيش السوداني في السياسة والاقتصاد منذ استقلال البلاد في 1956.
اتضح أن الجيش كان في قلب الخراب الذي طال مؤسسات الدولة خلال سنوات حكم الإسلاميين الثلاثين، وأن ميزانية قطاع الأمن والدفاع التي ووجهت مراراً بانتقادات المعارضة لم تكن تذهب بالفعل لبناء جيش قوي. عُرف الإسلاميون باتباع سياسة المؤسسات الموازية، فكان جهاز الأمن على سبيل المثال يتفوق على الجيش من حيث النفوذ الاقتصادي والسياسي ومن حيث التأهيل والكفاءة، ثم أُسست “قوات الدعم السريع” بدعاوى “حسم التمرد” في دارفور وحازت هي الأخرى على امتيازات هائلة حتى تحوّلت لجيشٍ موازٍ.
الواقع الأشد هو أن الجيش رغم ابتداره للحرب الكلامية مع “الدعم السريع”، والتي اشتعلت لأكثر من شهرين قبل الانفجار، إلا أنه لم يكن مستعداً لمواجهة مسلحة. يتجلى هذا في سرعة إحكام “قوات الدعم السريع” السيطرة على مواقع حيوية دون خسارتها حتى الآن، واعتقالها لقيادات بارزة في الجيش.
اعتماد الجيش بشكل رئيسي على الطيران الحربي والتدوين المدفعي وغياب سلاح المشاة، في مواجهة عشرات الآلاف من مشاة “الدعم السريع”. هذه أسلحة على الرغم من أهميتها في المنظومات العسكرية، إلا أنها غير مجدية في حرب المدن. يعتبر هذا من البديهيات التي تحدّث عنها كثير من العسكريين.
وهكذا حدث تجريف كامل لمؤسسات الدولة لصالح المؤسسات الموازية طال حتى شروط الخدمة التي أصبحت ظاهرة في وضع الجيش، وليس الآن فحسب، بل منذ سنوات خلت.
أذكر جيداً، أنه في العام 2016 أقر وزير الدفاع آنذاك، عبد الرحيم محمد حسين، بوجود عجزٍ في صفوف الجيش بسبب تدني الاستجابة للتجنيد، وعلل ذلك بالإقبال على العمل في التعدين عن الذهب مع انخفاض قيمة الجنيه السوداني. كما طالب أمام البرلمان بمعالجة ضعف المرتبات وإعداد الجيش سياسياً، اقتصادياً، ونفسياً، في وقت كنا نشهد باستمرار تخريج آلاف المجندين لصالح “الدعم السريع” منذ تاريخ تأسيسها رسمياً في 2013. هذا يفسر غياب سلاح المشاة واعتماد الجيش بشكل رئيسي على الطيران الحربي والتدوين المدفعي، في مواجهة عشرات الآلاف من مشاة “الدعم السريع”.
هذه أسلحة على الرغم من أهميتها في المنظومات العسكرية، إلا أنها غير مجدية في حرب المدن. يعتبر هذا من البديهيات التي تحدث عنها الكثير من العسكريين، وأثبتت تجربة الخمسين يوماً في المعارك الضارية الدائرة الآن أن الجيش لم يتمكن من تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض بما يليق بوضعه. ربما هذا ما حدا بضباط بارزين بتقديم النصائح للاستعانة بمجموعات مقاتلة من خارج وحدات الجيش لفرض السيطرة على الأرض، على الرغم من تقدير بعض من هم في قلب العمليات العسكرية بتدمير 40 في المئة من قوة الدعم السريع وبتقدم الجيش عسكرياً لكن بشكل غير محسوس للمواطِن.
وفقاً لاستراتيجية الجيش في قتال “الدعم السريع” والتي تابعها الجميع منذ يوم الانفجار، سوف تستغرق حرب الخرطوم شهوراً. استراتيجية الجيش بصفته النظامية والكلاسيكية تجعل الوضع شبيهاً بـ”الحفر بالإبرة”، وقطعاً سيضطر بعض الناس للتطبيع مع الحرب في ظل الضنك المعيشي المتمدد، لكن من المؤكد أن الوضع بعد 15 نيسان/ أبريل مغاير تماماً، وسيفرض مستقبلاً تغييرات جوهرية على كافة المناحي.
نقلاً عن صحيفة السفير اللبنانية
المصدر: صحيفة التغيير