اخبار السودان

مبعوث أمريكي فاشل وسياسة بائسة

الطاهر محي الدين أحمد

تبقت أيام على نهاية تكليف المبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيريللو، وسيغادر منصبه دون أن يذرف عليه أي سوداني مستقيم دمعة. فهو لم يحقق أيًّا من أهداف السياسة الأمريكية المعلنة تجاه السودان، بل على العكس، فاقم من كل التعقيدات. وللأسف، فإن فشله ليس متعلقًا بأدائه الشخصي وحسب، وإنما كذلك بالتوجهات الأساسية للإدارة الديمقراطية المنصرفة.

بحسب المعلن، فإن السياسة الأمريكية تجاه السودان تهدف إلى إيصال الإغاثة الإنسانية، وحماية المدنيين، وإيقاف الحرب، واستعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي. ولكن الممارسة العملية للمبعوث والإدارة خدمت نقيض الأهداف المعلنة.

🔺فشل في إيصال الإغاثة:

فيما يتعلق بالإغاثة، فإن الإدارة الأمريكية ومبعوثها لم تمارس الضغوط الكافية على طرفي الحرب للسماح بوصول الإغاثات. والأخطر أن الطرف الأمريكي سكت تمامًا عما يراه كل مراقب من سرقة الإغاثات وبيعها “على عينك يا تاجر” بواسطة حكومة بورتسودان، خصوصًا جبريل إبراهيم ومتعهده للصفقات المشبوهة بشارة سليمان.

بل والكارثي أكثر أنه وبتنسيق واضح بين “المتعاونين” في الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن وبين المخابرات الأمريكية، سُلّمت موارد مخصصة للإغاثات للشبكات الزائفة من المتعاونين كي تبني بها نفوذًا سياسيًا بديلاً عن القوى المدنية الديمقراطية الحقيقية.

🔺فشل في حماية المدنيين:

أما فيما يتعلق بحماية المدنيين، فقد تركز الهجوم على انتهاكات الدعم السريع. وهي حقًا انتهاكات فظيعة وواسعة، تجد من كل إنسان شريف الإدانة بلا تردد أو لجلجة. ولكن أسوأ الأكاذيب هي أنصاف الحقائق. وهكذا، بعدم نزاهة يثير القرف والاشمئزاز، تم التغاضي عن انتهاكات الجيش وكتائب الإسلاميين. فلا تسمع عن قصف البراميل المتفجرة للمدنيين في الأسواق عن سبق إصرار وترصد، ولا تسمع إدانة لبقر البطون وأكل الأكباد واستهداف المواطنين على أساس الهوية الجهوية والقبلية. كما لا تسمع ولو مجرد إشارة لدور الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن في الفتن القبلية، مما شكّل الإطار الحقيقي لجرائم الدعم السريع ومليشياته المنفلتة في التطهير العرقي والاستهداف القبلي.

وما من وكالة أنباء غربية تذكر قوات الدعم السريع إلا وتذكر أصلها الجيني كمليشيا جنجويد. وهذا صحيح، ولكنه أيضًا نصف الحقيقة الكذوب. وتكتمل الحقيقة حينما تذكر الحقائق الأخرى، وهي أن مليشيا الجنجويد شكّلتها الحركة الإسلامية/القوات المسلحة، وكانت داعمة لها وراضية عنها وتغطي وتدافع عن جرائمها في أسوأ لحظات الإبادة الجماعية في دارفور.

وإمعانًا في التضليل والاستهبال، جندت الإدارة الأمريكية كل مواردها المادية والإعلامية والرمزية لأولئك المصابين بالعور الأخلاقي الذين ينظرون بعين واحدة لانتهاكات الدعم السريع وحدها، فيما يغطون أو يقللون من انتهاكات الجيش والمليشيات الإسلاموية. فيبرز هؤلاء المدافعون الزائفون وتُفتح لهم المنابر الإعلامية الغربية، ويدعون لجلسات الاجتماع الدبلوماسية، فضلاً عن مدهم بالموارد المالية والجوائز التلميعية. وبذلك، حولت الإدارة الأمريكية المنصرفة حركة حقوق الإنسان السودانية إلى مسخرة.

وترتبط حماية المدنيين جوهريًا بإيقاف الحرب. ولا يمكن ذلك إلا بضغوط كثيفة وحقيقية على معرقلي السلام. ولكن الإدارة الديمقراطية ظلت تتجنب استهداف مشعلي الحرب ومعرقلي السلام إلا فيما ندر. عاقبت كرتي وصلاح قوش، في حين تغاضت عن عناصر المركز الحقيقي للإسلامويين في الأجهزة العسكرية والأمنية الذين لا يزالون في الخدمة وينشطون في تسعير لظى الحرب ورفض كل مبادرات السلام.

والأهم أن الإدارة لم تستهدف مطلقًا تمويل الحرب الحقيقي المرتبط بالذهب رغم معرفتها التفصيلية بشبكات إنتاجه وتصديره وتهريبه. وفيما ضغطت لإغلاق حسابات الدعم السريع في وسائل التواصل الاجتماعي، تتفرج بلا مبالاة على أبواق الخراب من الإسلامويين، الذين تتناقض خطاباتهم مع أي معايير إعلامية أو إنسانية.

ويرفض البرهان دعوات الإدارة الأمريكية نفسها لمفاوضات السلام، لكن ظلت الإدارة تدلله بكل السبل الممكنة: فاعترفت له بشرعية بعد أن انقلب على الانتقال المدني وأسهم في إحراق البلاد وخرابها. بل وتريق ماء وجه أمريكا وتتقبل الإذلال كما حدث للمبعوث أثناء مفاوضات جنيف. وما من عاقل يمكن أن يصدق أن أوكرانيا تهرب البرهان من البدروم إلى بورتسودان بل وتمده بالطائرات المسيرة دون ضوء أخضر أمريكي. وكذلك لن يقصف الطيران المصري، ولا تُورد تركيا المسيرات، بدون موافقة أمريكا.

وفيما تسلط الأضواء والضغوط لإيقاف تدخلات الإمارات بدعم الدعم السريع، يتم التغاضي أو تجاهل تدخلات إيران وتركيا وقطر ومصر وروسيا بدعم الجيش/الكيزان!!

🔺التحالف مع الإسلام السياسي:

وكيف يتحقق انتقال مدني ديمقراطي والإدارة الأمريكية المنصرفة تخصص كل مواردها لدعم العناصر غير الديمقراطية؟! تحول لشبكاتهم التنظيمية والإعلامية الموارد، وتمنح الشرعية للعناصر المرتبطة بالاستخبارات العسكرية والأمن بدعوى أنهم ممثلو الشباب والنساء والمجتمع المدني، في جهد مقصود ومخطط لإعادة تمكين الإسلامويين وعناصرهم المدسوسة، ولعزل وتهميش وإحباط القوى الديمقراطية. وهو أمر مكشوف وواضح لكل من في المجال العام السوداني. ولا يثير مجرد الغضب وإنما كذلك التقزز والاشمئزاز.

وتتعدد أسباب ما ظلت تفعله الإدارة الأمريكية ومبعوثها في السودان، ولكن لا يسمح الحيز المحدود بإيرادها كلها، ولذا أركز على السبب الجوهري.

منذ إدارة أوباما وحتى الآن، تتبنى الإدارات الديمقراطية التحالف مع النسخة المدجنة من الإسلام السياسي، أي النسخة تحت السيطرة لخدمة أولويات المخابرات الأمريكية.

وكانت الإدارة الأمريكية تريد للسودان تحقيق تغيير محدود وشكلي يبقي المؤتمر الوطني (بعد إزاحة البشير والعناصر الأخرى غير المرغوب بها) مركزًا للنظام السياسي في البلاد، وتلحق به القوى الديمقراطية بما يجعلها تحت سيطرة “المتعاونين” في كل المستقبل المنظور. ولكن القوى الديمقراطية رفضت الإلحاق، ثم فاجأت ثورة ديسمبر المخابرات الأمريكية بالمدى الذي وصلته في رفض المؤتمر الوطني، كما أن الثورة حدثت بعد انصراف إدارة أوباما وتسلم الجمهوريين للسلطة.

وتحالف المخابرات والإدارة الأمريكية ليس مجرد تحليلات وإنما تؤكده الحقائق الصلدة: فقد صرح أحد قادة الإنقاذ من المتعاونين بأنهم آذان وعيون المخابرات الأمريكية في المنطقة. ومنذ زيارة قوش المعلنة ظلت المخابرات الأمريكية تمول جهاز الأمن بخمسين مليون دولار سنويًا لـ”مكافحة الإرهاب”.

ولهذا، ظلت الإدارة الأمريكية الديمقراطية تتعامل وكأن ثورة ديسمبر غلطة تاريخية يجب تصحيحها، وتضغط مع البرهان لإيقاف تفكيك التمكين، خصوصًا في الأجهزة الأمنية والعسكرية.

وكما تتحالف الإدارات الديمقراطية مع الإسلام السياسي، فإنها تتحالف كذلك مع رعاته في المنطقة: قطر وتركيا. ولذا، ومهما تدعي، فإنها تريد إعادة تمكين نسخة متحورة من فيروس الإسلام السياسي تحت قيادة البرهان.

وهذا يتعلق بحساباتها بمستقبل المنطقة والعالم والسيطرة عليه. فهي ترى أن الإسلام السياسي سلاح رخيص يمكن استخدامه ضد الصين وروسيا ولإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وشرق أفريقيا.

ولكن أكدت التجربة التاريخية أن الأسلحة الرخيصة يمكن أن ترتد على مستخدميها، وذلك ما حدث مع القاعدة في أفغانستان و11 سبتمبر وفي قطاع غزة. وقد استخلص كثير من الجمهوريين الدرس الصحيح، ولكن الكثير من الديمقراطيين وعناصر المخابرات الأمريكية ما زالوا في حاجة لمزيد من الدروس.

ومهما يكن، فإن الشعب السوداني، ومهما تفنن الخداع والتضليل، لن يقبل مطلقًا إعادة تمكين الإسلامويين في البلاد.

ولهذا، فإن حفلات وداع المبعوث الأمريكي المنصرف لن تحضرها سوى العناصر غير الديمقراطية وأولئك المضغوطون بسيف إيقاف التمويل من الهيئات الأمريكية. ويا لها من نهاية بائسة.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *