ما وراء ساحات المعارك: الصراع في السودان في عدسة التاريخ والجغرافيا السياسية 13
بينما نبدأ في استكشاف تفصيلي للصراع المعقد في السودان، من المهم أن نضع مناقشتنا ضمن السياق التاريخي والجيوسياسي الأوسع الذي شكل الأزمة الحالية. يهدف هذا الجزء الأول من السلسلة إلى تحليل الفروق الدقيقة التي لم يتم تناولها بشكل كافٍ والطبيعة المتعددة الأوجه للصراع السوداني، متجاوزًا الروايات التقليدية. ومن خلال الخوض في الأصول، وأصحاب المصلحة المعنيين، والديناميات المتطورة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، نسعى إلى تقديم نظرة شاملة تسلط الضوء على التوترات العرقية العميقة والانتماءات السياسية، والدور المحوري لجماعات الميليشيات المحلية. هدفنا هو تقديم تحليل متوازن لا يعرض الحقائق كما وثقتها مصادر مثل تقرير ACLED فحسب، بل يتضمن أيضًا رؤى وتفسيرات موضوعية لهذه الأحداث تتجاوز التحيز المعرفي والتحليلي كما في التقرير، بل تتجاوزه مستندة على الحقائق الموثقة. يمهد هذا الجزء التمهيدي الطريق لفهم أعمق للصراع المستمر في السودان، ويدعو القراء إلى النظر في التفاعل المعقد للمظالم التاريخية، والصراعات على السلطة، والسعي إلى السلام في أمة تتوق إلى الاستقرار والوحدة. وهي سلسلة من ثلاثة حلقات.
في هذا المقال اقوم بتقديم قراة تحليلية، مع رؤيتي لبعض الحقائق التي اغلفها التقرير أو تناولها بصورة غير محايدة. مع ذلك يوفر تحديث حالة النزاع في السودان لشهر فبراير 2024، على النحو المفصل في مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثه (ACLED)، نظرة عميقة على الديناميكيات المتطورة للحرب بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF). وفي اعتقادي تمثل هذه الفترة محل التحليل منعطفًا حاسمًا، بعد عشرة أشهر من الصراع الذي لم يُحدث ندوبًا عميقة في البلاد فحسب، بل أعاد أيضًا تشكيل المشهد الجيوسياسي بشكل كبير. يمثل الوضع في السودان اعتبارًا من فبراير 2024، على النحو المبين في تقرير ACLED، سيناريو معقدًا ومتقلبًا يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد صراع بسيط بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. ويكشف التحليل عن صراع متعدد الطبقات يتميز بتحول التحالفات، و الديناميكيات الإقليمية، ومشاركة مختلف الجماعات العرقية والمتمردة، ولكل منها مظالمها وطموحاتها التاريخية.
ويسجل التقرير بدقة أكثر من 5000 حادثة عنف سياسي وأكثر من 14600 حالة وفاة، مما يؤكد التكلفة البشرية الباهظة للصراع المستمر. شهد تصاعد الأعمال العدائية تحولاً استراتيجياً، أبرزته بشكل خاص قدرة القوات المسلحة السودانية على كسر حصار قوات الدعم السريع في أم درمان، مما يشير إلى تحول كبير من الاستراتيجيات الدفاعية إلى مناورات هجومية أكثر عدوانية تهدف إلى استعادة الأراضي المفقودة وتعزيز المكاسب. حول القواعد الإستراتيجية في الخرطوم. وهنا يبتعد التقرير عن الواقع، متبنيا وجهة النظر التي روج لها إعلام القوات المسلحة والجهات التي تقف من ورائه، والتي حظيت بتغطية واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الاخرى بشأن هذا التحول، وهي رواية لم نلاحظها على أرض الواقع. وحتى مقاطع الفيديو التي يتم نشرها بين الحين والآخر لا تتجاوز حدود المناطق المتواجدين عليها منذ بداية الحرب.
يقول التقرير”تبرز هذه المرحلة من الصراع أيضًا الدور الحاسم الذي تلعبه الميليشيات الاثنية والجماعات المتمردة للحركة الشعبية فصيل عبدالعزيز الحلو”. ويلخص هذا الاقتباس بأمانة ملاحظاتي عن التقرير، مع التركيز على المشاركة المحورية للميليشيات العرقية والاثنية والفصائل المتمردة في المشهد المتطور للصراع. والجدير بالذكر أن التقرير يشير إلى “الجماعات العرقية المتمردة” في توضيح دور الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو. ويتوافق هذا التوصيف مع تحليلي، مما يشير إلى توافق التقرير مع الرواية التي تروج لها القوات المسلحة السودانية ومؤيدوها. علاوة على ذلك، يتناول التقرير هذا الموضوع بإسهاب من خلال تسليط الضوء على التعبئة الإستراتيجية حول فصيل الحلو التابع للحركة الشعبية لتحرير السودانشمال، وبالتالي ضخ طبقة إضافية من التعقيد في ديناميكيات الصراع. لا تؤثر هذه الكيانات بشكل كبير على تحولات السيطرة الإقليمية فحسب، بل تساهم أيضًا في النسيج الأوسع والمعقد للديناميكيات المحلية والإقليمية التي تشكل مسار الصراع.
يسلط التقرير الضوء بصورة واضحة وهنا اتفق معه أيضا، على أن أعمال العنف المكثفة في غرب كردفان، حيث ظهرت بابنوسة كنقطة محورية للمعارك الإستراتيجية، مما يعكس التفاعل المعقد بين الاستراتيجيات العسكرية والانتماءات العرقية والسياسية المحلية. على الرغم من الاشتباكات العرضية، إلى اتباع نهج دقيق لتشكيل تحالفات يمكن أن تؤثر بشكل كبير على سيطرة قوات الدعم السريع (RSF) على المناطق الرئيسية.
قال التقرير بوضوح في مقدمته: “أجبر حشد الجماعات المتمردة والميليشيات العرقية في شمال دارفور قوات الدعم السريع على تجنب المواجهة المباشرة. وفي كردفان، قد يؤدي التعاون المستمر بين القوات المسلحة السودانية والحلو إلى دفع قوات الدعم السريع إلى الخروج من الدلنج وغيرها من المناطق التي يتواجد فيها فصيل الحلو. “الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال لا تزال مسيطرة. ومع ذلك، فإن الاشتباكات بين هؤلاء المتعاونين في أماكن أخرى في جنوب كردفان تزيد من حالة عدم اليقين بشأن الوضع”. وتناول التقرير، تورط الميليشيات العرقية والجماعات المتمردة مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو يقدم طبقة أخرى من التعقيد. ويشير التعاون بين القوات المسلحة السودانية وفصيل الحلو لصد هجمات قوات الدعم السريع في جنوب كردفان إلى وجود تحالف ملحوظ، ومن المحتمل أن يغير الخطوط الجغرافية والعرقية للنزاع. ومع ذلك، فإن هذا التحالف يثير أيضًا أعمال عنف بين الأعراق، مما يسلط الضوء على الانقسامات العرقية العميقة الجذور والتوترات التاريخية التي تغذي الصراع.
نواصل ….
اسماعيل هجانة
المستشار الاستراتيجي للشؤن الانسانية والتنموية
المصدر: صحيفة الراكوبة