أتيم قرنق ديكويك
خلال هذه الايام من شهر اغسطس ٢٠٢٥؛ ظهرت، علي ضفاف نهر النيل داخل أدغال افريقيا، اخبارٌ مريبة بل غريبة عن القضية الفلسطينية، تداولتها و ما زالت تداولها وسائل الاعلام العالمية و مواقع التواصل الاجتماعي؛ مفادها أن دولة إسرائيل تحاور جمهورية السودان الجنوبي علي قبول اعداد معين من مواطني قطاع غزة يتم (تشريدهم) و (ترحيلهم) من أراضيهم و (توطينهم) في اراضي دولة السودان الجنوبي. و لغرابة القصة و عدم معقوليتها و لا منطقية الفرية فقد اثارت ضجة اعلامية عالمية كبرى و جدلاً واسعًا في أوساط المثقفين السودانيين الجنوبيين اينما وجدوا. و علي رغم من النفي القاطع من حكومة السودان الجنوبي الا ان هذه الاخبار ما زالت متداولة في وسائل الإعلام العالمية.
هذا الموضوع المثير للجدل، و الغريب في المنطق، يحمل عدة افتراضات عن المغذي من اثارته في هذا التوقيت، و مقاصد ترديده و تضخيمه في كبري وسائل الاعلام العالمية ذات مصداقية في ما تنشرها من الاخبار و التحليلات حول القضايا الدولية، هذا التداول يمنح الموضوع بعدًا دوليًا وإقليميًا يعطيه مصداقية زائفة. و الجدل المثار حاليًا يدور حول عدة افتراضات من بينها:
الافتراض الأول: هو ان دولة إسرائيل قد تكون قد وعدت و تعهدت بمساعدة حكومة السودان الجنوبي بإستخدام وسائل و مخالب ضغوطها الاخطبوطية في الولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصةً و الدول الاوروبية الغربية بصفة عامة بإلغاء الحظر المفروض علي استراد السلاح و رفع العقوبات المفروضة على بعض الشخصيات و تقديم بعض الدعم الدبلوماسي و العسكري و المالي الي حكومة السودان الجنوبي.
هذا الافتراض يلغي ارادة شعوب الارض و يتجاهل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الأمنية السائدة حاليًا في جمهورية السودان الجنوبي؛ و لذا هو أفتراض غير واقعي و لا يمكن تنفيذه، و لان دولة اسرائيل ليست من بين الدول المانحة ماليًا او اقتصاديًا او و لا تقوم بتقديم المساعدات الانسانية، و لذا فإن أهميتها غير محورية في منقطة شرق إفريقيا تنمويًا و حتي عسكريًا الا في مجالات التجسس فقط.
الافتراض الثاني: هو ان يكون الموضوع عبارة عن بالونة حربٍ نفسية اسرائيل ضد موقف مصر الرافض بشكلٍ قاطع عن ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم الي اي دولة كانت؛ لان قبول الترحيل يعني تضامن ضمني لما حدث للفلسطينيين من تشريد من اراضيهم عام ١٩٤٨. و قد يكون المغذي من هذا الافتراض هو ان تتقبل مصر للأمر الواقع طالما وُجدت دولة (غافلة) أو (متضامنة) تقبل بإيواء الفلسطينيين المطرودين من اراضيهم، و اذا أبدت مصر و الدول العربية مرونة في قبول إيهام ترحيل الفلسطينيين الي اراضي السودان الجنوبي لما في ‘نفس يعقوب’ من حلم ان تصير تلك الأراضي، بمرور الزمن، أرضًا عربية واسلامية و التي كانت في فترة ما مستعمرة عربية إسلامية قبل استقلالها في ٢٠١١؛ فان اسرائيل من خلال القبول الضمني من مصر و بعض الدول العربية (لافتراء الترحيل) الى أدغال إفريقيا، قد تميط عن الوجهة و الجهة الحقيقية لترحيل الفلسطينيين؛ فقد تكون اسرائيل اتفقت مسبقًا مع دولة اخري غربية او اسلامية متضامنة معها علي طرد الفلسطينيين من غزة و توطينهم على أراضي تلك الدولة!
الافتراض الثالث: هو ان يكون الموضوع من الافتراءات الاسرائيلية الإعلامية لزعزعة نفسية الفصائل الفلسطينية المناهضة لاسرائل و تبديل مواقفهم التفاوضية بايهامهم ان مسألة ترحيل أهليهم من غزة قد صارت أمرًا لا مفر منه، علي ضوء مسرحية محادثات الترحيل الي السودان الجنوبي المتداولة في وسائل الاعلام الغربية، بوجود دولة قبلت بإيوائهم، فمن هنا تتغيير مواقف الفلسطينيين في قضية الاسرى او (الرهائن) و نزع السلاح و قبول سلطة الحكومة الفلسطينية بقيادة محمود عباس على غزة مقابل بقاء اهليهم في غزة، و تكون اسرائيل بذلك قد تخلصت من الفصائل او (المقاومة) الفلسطينية المسلحة في غزة و الضفة الغربية و قد تخمد مسألة الترحيل مؤقتًا.
المهم في الامر، هو ان آي من هذه الافتراضات لم و لن تغيير من موقف شعب السودان الجنوبي الثابت الداعم للقرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية منذ قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ و حتي اليوم، و أهم هذه القرارات قرار قيام دولتين، دولة إسرائيل و دولة فلسطين، و عودة الفلسطينيين من لبنان و الاردن الي فلسطين؛ و انهاء حالة الحرب القائمة منذ ١٩٤٨ في منطقة الشرق الاوسط. لن يقبل شعب السودان الجنوبي بالتوطين القهري أو الاختياري للفلسطينيين علي اراضيه و لا توجد قوة بشرية يرضخ لها هذا الشعب لما يتعارض مع مصالحه و إستقلاله و وجوده.
و دولة السودان الجنوبي ليست سوقًا مباحًا لمقايضة القضية الفلسطينية و لا مقبرة لإستجأر لدفن حقوق الفلسطينيين في أدغال افريقيا.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة