ما حدث في الجنينة لا يبقى في الجنينة: وأعشوشب العار
عبد الله علي إبراهيم
قال الفيتوري عن مقتل القائد الفرنسي الذي صرعته مقاومة أهله المساليت في معركة دروتي (نوفمبر 1910)
عرى صدراً دموياً أعشب فيه العار
مما يخشى منه أن الفهم الذي ساد أن الوقائع الدامية على “المساليت” في الجنينة بدارفور هي مجرد أثر من حرب الخرطوم قد يسوقنا لا لفهم ما يجري في الجنينة ولا في الخرطوم في آن واحد، بل إن ما يجري في الخرطوم هو أثر مما ظل يجري في الجنينة منذ تسعينيات القرن الماضي. فهو استنساخ مروع من “نجتيف” الجنينة إذا استعنا بلغة التصوير.
“المساليت” شعب في الحزام السوداني على الحدود بين تشاد والوسط الغربي للسودان، وتعداده نحو نصف مليون أكثرهم في السودان، ويتحدث لغة تنتمي إلى الأسرة النيلية الصحراوية. وكان تابعاً لسلطنة الفور حتى أسقطها الحكم التركي المصري (18211885). ومع ذلك لم تترك السلطنة “المساليت” على حالهم حين استردت نفسها على يد السلطان علي دينار بعد سقوط دولة المهدية (18851898)، فحاربهم السلطان كراً وفراً حتى قبل باستقلال المساليت عنه في نحو 1907.
ونمت سلطنة المساليت تقاليداً ديوانية دقيقة في تمسك بليغ بهويتها الإسلامية واستقلالها. ويذكر لها التاريخ أنها لم تقاوم الفرنسيين الذين جاؤوها من جهة الغرب لاقتسام أفريقيا فحسب، بل هزمت جيشهم في معركة كريندق يناير (كانون الثاني) عام 1910 أيضاً. وكادت تهزمهم مرة ثانية في معركة ثأرهم في دروتي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه. وتعاقد الإنجليز والفرنسيون لضمها إلى السودان في مفاوضاتهما حول حدود السودان الغربي في 1922.
واحتفظت السلطنة بقوامها الإداري بإشراف من ممثل مقيم لحكومة السودان في ما عرف بالحكم الاستعماري غير المباشر للأهالي. وتروج بين “المساليت” إفادة أنهم خيروا وقتها بين أن ينضموا إلى السودان أو تشاد فاختاروا الأول. ومن أفدح ما سمعت أخيراً قولة السلطان الحالي للمساليت، حيال بلده المنتهك والمضرج، أنه ود لو اختار أهله الانضمام إلى تشاد.
الأصل في أزمة المساليت ومحنتهم الراهنة هو اختلال المعادلة التقليدية بين رعاة دارفور، الذين صدف أنهم عرب بالغالبية، ومزارعيها ممن صدف أنهم أفارقة، أو “زرقة” بالمصطلح المحلي.
وتسمي عبارة محلية الرعاة بـ”القرون” أي رعاة الأنعام بينما تطلق على المزارعين لقب “الجرون” وهي مطامير خزن العيوش بعد حصادها. ونتج هذا الاختلال عن الجفاف والتصحر الذي ضرب الساحل الأفريقي بما في ذلك شمال دارفور منذ أوائل السبعينيات. بدأ الجفاف مروعاً في 19721973 وبلغ الزبى في 19841985 و1991 ثم سنة بعد سنة منذ 2001. وتجسد في تغير ديموغرافي اضطر به الرعاة من سودانيين وغير سودانيين من تشاد وليبيا إلى الإقامة بين المزارعين فوق ما تواضعوا عليه تقليدياً.
كان الرعاة يبقون في مناطقهم بالشمال سبعة أشهر لطول الخريف ثم يقضون أشهر الصيف بين المزارعين في دورة تبادل منافع معروفة، ولكن حمل انقطاع المطر في البوادي الرعاة إلى تطويل إقامتهم بين المزارعين فوق المعتاد.
هنا نشبت النزاعات بين “القرون” و”الجرون” حول حظوظ كل من الماء والكلأ جراء ذلك. وترافقت مع هذا الاختلال تطورات ثقافية وديموغرافية نوعية. فأفاق العرب البادية في محنتهم هذه إلى فوتهم حقوقهم السياسية في إقليم دارفور، الذي كانت صفوة المزارعين الأفارقة قد أمسكت بزمام قيادته، لانشغالهم عنها بالترحال، فكونوا تنظيماً باسم التجمع العربي لأول مرة في أوائل الثمانينيات، وتم ذلك في سياق مشروع الساحل الأفريقي العربي الإسلامي الذي تبناه العقيد معمر القذافي في السبعينيات. ومن جهة أخرى كانت دارفور، وهي في مخاض ذلك التغيير الديموغرافي المنذر بالخطر، قد زادت عدداً في السكان.
كان النزاع بين الرعاة والمزارعين في دارفور منذ الأزل. ونشأت أعراف مستقرة لحلحلته بالجودية (تحكيم عرفي)، ولكن بطلت تلك الأعراف لسببين، الأول هو أن “القرون” لم تعد عابرة لدار “الجرون” إلى مستقر لها في أوطانها المعروفة لأن التصحر أخلى يدها منها، فلم يعد النزاع بينهما حول اعتداء سعية راحل على مزارع كما كان الأمر قبلاً بل تحول إلى نزاع حول الموارد في أرض المزارعين والاستيطان فيها.
والسبب الثاني هو مجيء حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير بمشروع مركزي سياسي عروبي إسلامي رأت به في النزاع حول الموارد سانحة تستنزفها لصالح مشروعها لا نزاع موارد تتوسل إليه بالسياسات في مثل التنمية والقسط. وابتدعت الإنقاذ في هذا السبيل سياسات خرقت أعرافاً تاريخية تعلقت بـ”الحاكورة” استقرت وقننت لها الدولة الإنجليزية الاستعمارية (18981956) وحكومات الاستقلال إلا حين أرادت مكافأة جماعة ما على خدمة ممتازة أدتها لها.
ما الحاكورة وأعرافها؟
يسود نظام ملكية الأرض في السودان مبدأ “الدار”، أو الحاكورة في مصطلح دارفور. فالجماعة، القبيلة، تحتكر كل أرض سبقت إليها، أو حتى أجلت منها قاطناً، وهو سلف مشاع بين أفرادها. فإذا جاءتها جماعة ليست منها نزلت بعد الإذن أهلاً “كتبع”، وشروط التبع أن تنتفع مثل هذه الجماعة بموارد دار مضيفك في الرعي والزراعة مقابل رسوم تدفعها لشيخ الجماعة صاحبة الدار. وتماثل الحاكورة الدولة الحديثة في بعض الصفات، فتحتكر الجماعة صاحبة الدار القيادة السياسية فيكون الناظر منها، ولا مطمع لتابع في أي قدر من المساهمة في سياسات الحاكورة وعلاقاتها مع غيرها من الحواكير، أو الدولة بأي صورة من الصور. وتعطل أعراف الحاكورة رمزيات جماعة التبع، فتمنعها من ضرب نحاسها (الطبل) القبلي في الدار التي جاءت إلى كنفها، كما تمنعها من رسم وسم أنعامها على أي موضع في الدار، بل وتمنعها من حفر أي بئر تصل الحجر. فكلها ممنوعات على التبع لأنها تعني أنه خرج من التبع إلى التملك، أو أنه بسبيله أن يستوطن.
وعليه كانت أكثر نزاعات الريف طولاً وتضريجاً هي تلك التي نشأت من “تمرد” جماعة التبع على صاحبة الدار، فمتى طاولت إقامتها في الدار ربما لأجيال طمعت في الخروج من مواطنة التبع إلى الاستقلال بأمرها من فوق أرض الجماعة صاحبة الحاكورة، فتتحين هذه الجماعة “المتمردة” سانحات السياسة الوطنية العامة لاختلاس دار ونظارة من الحكومة المركزية نظير خدمات أدتها لها. وتلك السانحة هي بذاتها ما عرضته “الإنقاذ” للعرب الذين أقاموا بين ظهراني “المساليت” زمناً.
جاءت دولة الإنقاذ إلى نزاعات دارفور بين الرعاة والمزارعين حول الموارد بمشروعها العروبي الإسلامي الذي احتاج منها إلى استنفار العرب للقتال دونه في حربها في الجنوب ثم لاحقاً في دارفور، ولولا ذلك المشروع السياسي لما احتاجت نزاعات دارفور بين رعاتها ومزارعيها إلى غير إحسان الحوكمة.
وكان “المساليت” أكثر أهل دارفور قاطبة تأذية من دخول الدولة بتلك الصفة. فكانوا في عين العاصفة “الإنقاذية” لسببين متصلين، فهم من أشد أنصار حزب الأمة حتى احتلت صفوتهم مراكز قيادية في حكومة الحزب عام 1986 بما في ذلك خانة ممثله في مجلس السيادة، وهي الحكومة التي أطاحها انقلاب الإنقاذ في يونيو (حزيران) 1989. وخرج حزب الأمة بنفوذه السياسي الكبير على رأس المعارضين لدولة الإنقاذ، وكان المساليت من الجهة الأخرى “زرقة” لا إعراب لهم في المشروع العروبي.
وأعدت حكومة الإنقاذ لـ”المساليت” رباط السياسات للجمها، فخرجت حكومتها في 1995 بإصلاح إداري لنظم “المساليت” تحيزت فيه للجماعات “التبع” لهم ممن جاؤوا إلى كنف حاكورتها منذ عقود نازحين من حروب تشاد الأهلية أو من الجفاف. واغتنم التبع أولئك سياسات الإنقاذ العروبية الإسلامية فقدموا لها خدماتهم حيث أرادت وأين. ولرد جمائل أولئك العرب قسمت الحكومة حاكورة المساليت إلى 13 وحدة، سمتها إمارة، جعلت منها 8 للعرب الوافدة من سودانيين وتشاديين والبقية للمساليت. وعقد ذلك الإصلاح حق تعيين سلطان المساليت على والي الولاية مما كان سيفتح الباب ليكون على “المساليت” سلطان ليس منهم بالمرة. وهكذا لم تبق “الإنقاذ” حجراً على حجر من أعراف الحاكورة مما غبن المساليت.
ودار الصراع بين “المساليت” والحكومة منذ ذلك التاريخ وظفت فيه الأخيرة الجيش والجنجويد معاً لكسر مقاومتهم. وبينما كان مشروع الحكومة إخراس معارضة المساليت كان للجنجويد العرب مشروع استيطاني تخلو به وجه دار “المساليت” لهم. فالمستعمر المستوطن في تعريف سيسل رودس، الاستعماري الإنجليزي الذي أعطى اسمه لروديسيا الشمالية والجنوبية في الخريطة الاستعمارية، هو من يريد الأرض خلاء من أهلها.
وتكاملت قواعد هذا الاستيطان من روتين الحملات التي شنها الجيش والجنجويد على “المساليت”. فيبدأ الهجوم على قراهم بعد طلعات للترهيب من طيران الجيش. فيهجم الجنجويد بعدها على القرية على جياد يصحبهم جنود من الجيش على تاتشرات (سيارات)، فيطلقون النار على من تصادف، ثم ينهبون البيوت، ويفككون أجزاءها، ويحرقونها واحداً بعد الآخر ويدفنون الآبار، ويغتصبون من وجدوا في هجومهم بينما لا يكفون عن إطلاق النعوت المسيئة عليهم.
ولا وقت للجنجويد لأخذ أسرى ولا مزاج “فالمسلاتي” الحقيقي عندهم هو الصريع، والهدف من كل ذلك هو اجتثاث القرية فلا يجد الراجع إليها سبباً ليرجع وقد صارت يباباً مغنماً للاستيطان. فإحصاءات اللجوء إلى تشاد التي يغلب فيها “المساليت” صريحة في إفراغ دارها من أهلها فنزح إلى هذا البلد المجاور 400 ألف دارفوري قبل الحرب الأخيرة وزادوا 270 ألفاً بعد الحرب. ولا بد أن نسبة “المساليت” من تعدادهم نصف مليون في السودان وتشاد كما تقدم، كبيرة بين هؤلاء اللاجئين.
ليس ما طرأ على الخرطوم من نهب للمال واحتلال للعقار واغتصاب وترويع غير استنساخ للروتين الجنجويدي الاستيطاني الذي شقي به شعب “المساليت” لثلاثة عقود.
حيال مأساة أمة “المساليت” هذه تتوارد أبيات للشاعر محمد مفتاح الفيتوري موحية عن أهله المساليت كتبها في 1964. وذكر فيها مأثرة السلطان تاج الدين إسماعيل في معركة دروتي ضد الفرنسيين ومصرعه فيها، قال:
يا ويل الحرب الملعونة
أكلت حتى الشوك المسود
لم تبق جداراً لم ينهد
وقال عن قائد الفرنسيين القتيل:
عرى صدراً دموياً أعشب فيه العار
ويعشوشب العار في الوطن.
محمد مفتاح الفيتوري
المصدر: صحيفة التغيير