د. الطيب النقر

الطيب النقر

 

من المحقق أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كانت تربطه صلات طيبة مع اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، هذه الوشائج ازدادت قوة وتوثقاً على مر الأيام وتعاقب الأحداث، ولكن هذه الأواصر باتت الآن متعبة مكدودة، وألحّ عليها الضعف الهزال، والشاهد على ذلك يد السيسي التي صدت صاحبها، وامتنعت عنه في موسكو، ولعل العلة في ذلك، تعود إلى متاع الدنيا، وحطام الحياة، الذي لم يكن سائغاً ولا يسيراً أن يصمد حياله الجنرال العجوز، فحفتر الذي باع حرمة الجوار في غير مشقة ولا مساومة، تمرد على العواطف الغالبة، والتقاليد الموروثة في السياسة المصرية، التي لها قدرة على الاحاطة، وصبر على التفصيل، والحنكة السياسية المصرية، التي تناسق جسمها، واعتدال قدها، يكمن في الاذعان والطاعة، فسهام الطاعة يجب أن تكون ثابتة ومستقرة في جنان من يتكسب من ودها، ويعظم بفضلها، واللواء حفتر الذي كان يلهث من الإعياء حتى ينال تأييد مصر ومعونتها، أضحى الآن يجيد الفكر، ويتقن الفهم، ويحسن الاستقصاء، لأجل ذلك اشتهى اللالئ، وطمع في محاسنها، فلم يكن بد من أن يقصد “صاحب السمو” حتى يتحفه بالقليل من الطيبات، وأمسى “طويل العمر” مستودع سر حفتر، ومثار نجواه، وبات اللواء المتقاعد يستشيره ويستلهمه، ويرضخ له، وأتاح له هذا القرب حياة فيها شيء من نعيم ورضا، وكثير من السطوة والنفوذ.

ومضى حفتر في توطيد صلاته مع “طويل العمر” غير عابئ ولا حافل، بما يجيش في صدر مصر من رضا أو سخط، حتى غدت حصون “كفيله الخليجي” في شرق ليبيا، باسقة الرماح، ممتدة الصفاح، ينتصب في وسطها صرح شامخ من الخسة والدناءة، وتعلو في ساريتها رايات المكر والدسائس، المكر التي جعل حفتر يبذل أيسر الجهد ليغرق ليبيا وجوارها في البؤس والشقاء، والشيء الذي ليس فيه شك، أن الرئيس السيسي ورهطه، يعلمون أن حفتر الذي يتهالك على المال أكثر مما كان يتهالك عليه بخلاء الجاحظ، لا طائل من استئناف التحدث إليه، والاستماع له، لأجل ذلك لم يسعوا أن يعيدوا حفتر لدائرة اهتمامهم، كلا، لم تحاول مصر شيئاً من ذلك، ولم تفكر فيه، خاصة بعد التفاوت والتباين في التوجهات والمواقف السياسية، فالقيادة المصرية خلاف أنها ممتعضة من اللواء حفتر الذي تنكر لها، وجحد فضلها، إلا إنها وجدت في نفسها شيئاً من الفرح والابتهاج، لاتصال الأسباب بينه وبين”طويل العمر” فهي لم تجد في استبقائه ودعمه رضا القلب، وراحة الضمير، وحفتر الذي ارتفع عداد طموحه حتى وصل إلى أقصى حد، أخذ يمضي في وجهته ساعياً لتحقيق أهداف وغايات لا تتلاءم بطبيعة الحال مع الأهداف والغايات العامة للدولة المصرية، متجاوزاً بذلك دور مصر الفاعل في القضايا الاقليمية، منها سعي الدبلوماسية المصرية لخير بلاده، ووأد الخلاف العاصف الذي مزقها لنصفين، ومن الأسباب التي دفعت مصر لعدم تجديد ما رث من أسباب المودة مع اللواء حفتر، ووصل ما انقطع منها، استقباله دون تنسيق مع مصر، لعدد من ضباط القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، تلك القيادة التي تظهر الرضا لمصر وتضمر السخط، وكذلك لدعمه السخي للفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير “بحميدتي” في السودان، ومده بالأسلحة والعتاد حتى يصل بمعركته مع الجيش السوداني إلى أقصاها، ومصر تريد أن تجري الأمور في حدودها الجنوبية على سجيتها، وأن يظل الجيش هناك قابضاً على أعنة الحكم، وأن ينعم السودان بالأمن والاستقرار، وحفتر لا يروقه كل هذا، فالشيء الذي ينزع إليه حفتر، هو سعادة”الكفيل” التي لا يقتصد فيها، لهذا كان يرسل كل ما يصل إليه منه إلى الفريق أول “حميدتي” فحفتر لم يكن كما قال “الدكتور طه حسين” رحمه الله يحتاج إلى الحاح في عمل، ولا فضل من جهد، ولا إلى طويل من وقت، حتى يؤدي مهمته على أكمل وجه، فحرب السودان لم تبلغ ذروتها من الوحشية، والشقاء، والألم، إلا لحرص اللواء حفتر أن يصب فيها نجحاً فيرضى عنه “الكفيل”.

وقبل أن نصل إلى خاتمة هذا المقال، ثمة اعتراف من كاتبه بأن عقل اللواء حفتر كان ضعيفاً أبله في تقديراته السياسية، إلا أنه لوذعيا متقد الذكاء في دعمه لطرائد البؤس، وصرعى الفاقة، أشقياء مليشياء”آل دقلو” الذين كان لا يعرف العجز، ولا اليأس، ولا الاخفاق، حتى يحظوا بتلك الأسلحة الفتاكة، التي يتم تفويجها عبر مطار “قاعدة الخادم الجوية في الجبل الأخضر”، ولا يهنأ له بال حتى يرى ابتسامة “الفريق عبدالرحيم” شقيق الهالك”حميدتي” باهتة صفراء متحجرة على شفتيه.

لأجل هذه الأسباب لم يشاهد حفتر من السيسي بشاشه محياه في موسكو، التي ذهبا إليها لمشاركة روسيا احتفالاتها بعيد النصر الثمانين على النازية، وتقاعس الرئيس السيسي وزهده في الالتقاء بهذا اللواء الذي اكتست منه ليبيا والسودان بأثواب البلاء والعنت، يعد أروع مثال لجموح القيادة المصرية التي تلقى خصومها بالازورار والاعراض.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.