اخبار السودان

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟

سمية أمين صديق

 

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024م (813)

 

إهداء المؤلف لكتابه :

“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”. المؤلف

 

نلتقي اليوم مع الفصل الثامن من كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه : من أجل فهم جديد للإسلام. جاء الفصل بعنوان : “إنطلاقاً من دعوة محمود محمد طه للتغيير ووفقاً لرؤيته كيف ومتى ستهب رياح التغيير؟”، وسأتناوله في حلقتين، من خلال محاور الفصل كما جاءت في الكتاب، وهي :

متى وكيف تهب رياح التغيير؟

الوصية المشرفة : كثفوا العمل .. يا عمر [القراي] لا تتوقف عن العمل

تكثيف العمل هو السبيل لمقاومة سردية رجال الدين : سردية كسل العقول وتناسل الجهل .

هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/ جفونها، والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة : إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟

القيام بالواجب المباشر خروج عن مأزق الموقف السلبي

ما الذي يحتاجه الواجب المباشر

العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟

عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس

الجمهوريون دعاة التغيير الجذري

مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه

ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني

 

يقول المؤلف عن هذا الفصل، أنه يسعى للإجابة عن سؤال مركزي في فضاء الفهم الجديد للإسلام، و يتصل بعلاقة الفكر بالواقع، و السؤال: متى وكيف ستهب رياح التغيير ؟ انطلاقاً من رؤية محمود محمد طه، و هو الداعي إلى الثورة الفكرية و الثورة الثقافية لإحداث التغيير. ووضع المؤلف السؤال بصيغة أخري، حيث يُقرأ، ماهي الأمور التي يجب توفرها حتى تهب رياح التغيير ؟

يقول عبد الله : (هذا هو السؤال المركزي، و الذي أجاب عنه محمود محمد طه، و هو سؤال يتصل بالواجب المباشر و بالمسؤولية الفردية في العمل. و يرى عبد الله، أن الناس قد انصرفت عن هذا السؤال بأسئلة أخري على شاكلة، من الذي سيطبق الرسالة الثانية من الإسلام؟ و هل يُمكن تطبيق الرسالة الثانية من الإسلام قبل ظهور المسيح؟ و هل حقاً ليس من واجب الجمهوريين الآن الدعوة أو التبشير بالفكرة الجمهورية؟ هل المطلوب العمل الداخلي في النفوس أم العمل الخارجي لدعوة الآخرين؟ ويضع عبد الله، سؤالاً ملحاً : ما الذي يمنع الجمع بين العملين الداخلي والخارجي لدعوة الآخرين؟ ويجيب : حقاً لا مانع، بل المطلوب الجمع بينهما. ويواصل بوضع الأسئلة؛ هل يكتفي الجمهوريون بالتوجه الروحي بدلاً من العمل على دعوة الآخرين؟ ماهي القامات المطلوبة لإحداث التغيير الكوكبي المرتجى ؟ هل المطلوب العمل أم إنتظار ظهور الرجل؟ هل المطلوب انتظار الوقت؟ هل الإنشغال بإعداد المواعين أولى من العمل الخارجي؟ هل هناك داعي للعمل الخارجي طالما نحن في إنتظار الرجل؟ يقول المؤلف : هذه الأسئلة ، وهناك غيرها، وعلى الرغم من أهميتها و قيمتها، إلا أنها صرفت الناس عن الواجب المباشر ، ذلك لأنها مثلت الإنشغال بما بعد اللحظة الحاضرة، كما أن الإجتهاد في الإجابة عنها أدى للقعود، و الهجر للعلمية، التي هي معجزة الرسالة الثانية من الإسلام، حيث علمية القرآن، و العلم لا ينفصل عن العمل قط. و يواصل المؤلف، أن الواجب المباشر، الذي هو عيش اللحظة الحاضرة، يتجلى بوضوح في الإجابة عن السؤال المركزي : ماهي الأمور التي يجب توفرها حتي تهب رياح التغيير ؟ ويؤكد المؤلف، أن هذه الأسئلة تتصل بالمسؤولية الفردية، و بالقيام بالواجب المباشر، كون القيام بالواجب المباشر يحقق إنجاز المطلوب، وهو أن تهب رياح التغيير.

 

متي وكيف تهب رياح التغيير؟

“هذه الدعوة فكر جديد، لكنه في تطبيقه العملي يمشي على رجلين مع الناس”.

محمود محمد طه

يقول المؤلف : (أجاب محمود محمد طه على هذا السؤال، ضمن حديثه عن “محتوى ما يُذاع”، و قد وردت الإشارة إليه آنفاً، فبيّين بأن هناك أمور تحتاج لتوضيح للناس، ثم حدد تلك الأمور وأجملها كما يلي : “أولاً : أن يُوضح للناس وبحسم قاطع أن الإسلام رسالتان”و يجرى التفصيل الذي يعرفه الأخوان الجمهوريين جيداً حتى لا يكون في هذا الأمر أدنى لبس ولا غموض” وأن الجمهوريين هم دعاة البعث الإسلامي، دعاة الرسالة الثانية من الإسلام، وفيها هي وحدها حل جميع المشاكل لجميع المجتمعات في اليوم الحاضر والأيام المقبلة.

ثانياً: أن يتم التفصيل عن آيات الأصول (الآيات المكية)، وآيات الفروع (الآيات المدنية)، وعن المسلمين والمؤمنين، و الأصحاب والأخوان، وعن الشريعة والسنة.

ثالثاً: أن يتم التفصيل عن قصور الشريعة السلفية عن حاجة إنسان اليوم، وعن التناقض الذي يعيشه المسلمون في واقع حياتهم مع بعض صور شريعتهم.

رابعاً: أن يتم التفصيل عن الدعوة إلى تطوير التشريع /تطوير الشريعة الإسلامية. ويضيف عبد الله قائلاً : وبتحديد هذه الأمور الأربعة تكون قد ظهرت المهمة بجلاء، وتحدد الهدف المنشود بدقة، ففي التوضيح لهذه الأمور، تكمن المهمة التي يجب القيام بها، ومتى ما داوم الناس على القيام بالمهمة، فإنهم قد استوفوا استحقاق الشرط المطلوب، الذي يسوق إلى الهدف المنشود، وهو أن تهب رياح التغيير. ويقول المؤلف موضحاً : (ويفيدنا حديث محمود محمد طه، عن رياح التغيير، و يبين لنا بأن الشرط المطلوب توفره حتي تهب رياح التغيير، هو فقط توضيح تلك الأمور للناس، وليس من بين الشروط أن يؤمن الناس بالفهم الجديد للإسلام أو يقتنعوا به، أو أن يصبحوا جمهوريين، أو أن يلتزموا بطريق محمد، وإنما فقط أن توضح لهم تلك الأمور، وتتضح عندهم. ومتي ما وضحت لهم، كما قال محمود محمد طه.” فإن رياح التغيير قد هبت” وعندها لن تقف قوة المُبطلين المكذِّبين أمام الثورة الفكرية والثورة الثقافية التي يرجوها للشعب السوداني الأصيل وعبره للبشرية جمعاء. كما يفيدنا كذلك، حديث محمود محمد طه، بأن المطلوب هو العمل،أذ لايمكن توضيح تلك الأمور للناس إلا عبر العمل و العمل ثم العمل..) ، يقول المؤلف:، أن جل الأسئلة التي طُرحت عليه خلال العقد الماضي(2013 2023م)، خلال تقديمه ومشاركته في نحو مائة فعالية عن الفهم الجديد للإسلام، سواء كانت محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية أو مؤتمرات علمية والتي تم تنظيمها من قبل جهات مختلفة في (11) دولة حول العالم، لم تخرج جميع هذه الأسئلة التي طُرحت عليه، عن الأمور التي حددها الأستاذ محمود محمد طه، ووجه بالعمل على توضيحها للناس،حتي تهب رياح التغيير. وهذا أنما يؤكد بأن الناس في حاجة لتوضح لهم تلك الأمور وهذا ما يحتم العمل وتكثيفه.

 

الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر [القراي] لاتتوقف عن العمل

 

يحدثنا المؤلف، بأن العلم لا ينفصل عن العمل عند الأستاذ محمود محمد طه، وهو الذي يرى بأن العلم في الإسلام، معناه العمل” وأي علم لا يستتبع العمل فهو عِلمٌ ناقص” ولهذا فإن دعوته للإخوان الجمهوريين بتكثيف العمل، تتضمن الاستيفاء بشرط استتباع العلم للعمل، وضرورة القيام بمهمة توضيح الأمور ، آنفة الذكر للناس حتي تهب رياح التغير .ففي رسالة موجهة من الأستاذ محمود محمد طه للإخوان الجمهوريين، بتاريخ السبت 1 سبتمبر 1984م، كتب قائلاً ” أعتقد أن شعبنا لا يزال يعطي الوزن للكثرة العددية لا للفكر .. الشعب غير مستعد لقيادتكم الآن.”. ثم وجههم ، قائلاً “.. كثفوا العمل الفكري حتي يتم وعي الشعب .. كثفوا توزيع المنشور و أكثروا منه ومن الحوار على هذا النحو الذي أراه منكم .. لا تتعاونوا الآن مع أي جهة في عمل جماهيري بدون و عي من جانبهم هم .. إن الشعب سيستعد لقيادتكم يوم يظهر وعيه بفكركم” ويقول عبد الله، عن طلب الأستاذ من الإخوان الجمهوريين بعدم التعاون مع أي جهة في عمل جماهيري ، بدون وعي من جانبهم هم ، يقول : إن هذا الطلب يقودنا للحديث عن موقف محمود محمد طه من الجهات العاملة في المجال العام، وموقفه من الأحزاب السودانية، وهذا ما لايسع المجال للحديث عنه الآن .. وبشرنا المؤلف بكتاب قادم، بعنوان : في نقد المنظومة السياسية في السودان: قراءة في آراء محمود محمد طه ومواقفه من الأحزاب السودانية.

أكد المؤلف أن الحث على العمل والاستمرار فيه، ظل من أهم توجيهات الأستاذ محمود محمد طه. ففي مقابله أجراها المؤلف مع عمر القراي، وهو من كبار الجمهوريين، حكي، بأنه و في آخر لقاء له جمعه مع الأستاذ محمود محمد طه في سجن كوبر بالعاصمة الخرطوم، يوم الثلاثاء 15 يناير 1985م،وذلك قبل تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة أيام، كان توجيه الأستاذ محمود محمد طه، أن يعمل الأخوان الجمهوريين، ولا يتوقفوا عن العمل .. ووجه عمر القراي قائلاً:”ياعمر لا تتوقف عن العمل”. ورد عمر ب(حاضر). كتب عبد الله معلقاً “يا لها من وصية مشرفه”.

 

تكثيف العمل هو سبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل .

 

تحدث عبد الله، عن السردية التكفيرية التي نسجها رجال الدين، والتي تحكمت، ولا تزال تتحكم في التعاطي مع الفهم الجديد للإسلام والسيرة الفكرية لصاحبه، ومع السجل الضخم للإخوان الجمهوريين العامر بالعطاء والتضحية. كتب عبد الله : (لقد نجح رجال الدين، وهو نجاح إلى حين، عبر تحالف ديني عريض، في تنميط صورة محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين في الشارع السوداني والإسلامي، بلصق تُهم الكفر والإلحاد والردة عن الإسلام) وبيّن عبد الله؛ أنهم بدأوا ذلك بتكفير تلاميذ محمود محمد طه و طفصلوهم عن المعهد العلمي بأم درمان في العام 1960م، ثم تآمروا مع شركائهم، فجاءوا بحكم المحكمة المهزلة، بردة محمود محمد طه عن الإسلام 1968م. ثم نشط التحالف الديني العريض في سبيل إصدار الفتاوي، فجاءت فتوى الأزهر بتكفير محمود محمد طه (1972م)، وفتوى رابطة العالم الإسلامي بردته عن الإسلام (1975م)، و تمويلها لاستكتاب الأساتذة ضده بالتعاون مع جامعة أم درمان الإسلامية ووزارة الشؤون الدينية و الأوقاف السودانية. فضلاً عن حملات هيئة علماء السودان، الواسعة و المنتظمة و المستمرة، في تضليل الشارع السوداني والإسلامي. كانت هيئة علماء السودان تطلب من أئمة المساجد والمواعظ في مختلف أنحاء السودان، أن يشيعوا من على منابر المساجد، كفر محمود محمد طه و الإخوان الجمهوريين، وإعلان ردتهم عن الإسلام. ويواصل عبد الله :(تبع ذلك أن تبني التحالف الديني العريض العمل المستمر ضد الفكر الجمهوري، عبر الإنتاج المعرفي التضليلي، الكتب والمقالات، وتدريس الأجيال في الجامعات والمعاهد العليا في السودان وفي الفضاء الإسلامي، فضلاً عن التشييع لتلك الفتاوى. و ظل يعمل على مدى (70) عاماً، بلا ورع علمي ووازع أخلاقي، في النسج لهذه السردية التكفيرية الراكدة والباطلة، والتسييل لها و إنتاج الأدبيات حولها. حتى عمت الفضاء الإسلامي، فأرهبت الكثير من المثقفين و المفكرين، و بلغ خبرها الأجيال الجديدة التي ُلدِت بعد تنفيذ حكم الإعدام على محمود محمد طه في 18 يناير 1985م.

 

هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/جفونها والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة : إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟

 

يقول عبد الله الفكي: أمام هذا التضليل المقصود، والعبث الفكري، والفوضى العلمية، والعمل اللا أخلاقي الذي قام به التحالف الديني العريض، ولا يزال، في محاربة الفكر الجمهوري، وفي تكفير محمود محمد طه والإخوان الجمهوريين، هل يُقبل من الأحرار غض الطرف أو التزام الصمت؟ وهل يستقيم التخلي عن العمل في مواجهة هذا الضلال و التضليل والإكتفاء بالتوجه الروحي مثلاً؟ وهل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/جفونها والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة : أن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام ؟ ويجيب عبد الله: الإجابة عن كل هذه الأسئلة قطعاً لا، ثم يتساءل : إذن ما المطلوب؟ وتأتي إجابته بقوله : المطلوب هو القيام بالواجب المباشر The Most Immediate Duty، حيث العمل من أجل توضيح تلك الأمور للناس، كما حددها محمود محمد طه، حتي تهب رياح التغيير . و أشار عبد الله، لما يردده البعض “عن الحاجة لتهيئة الظروف السياسية حتى تُفتح المنابر الحرة وتنطلق الدعوة” ويتساءل: هل المطلوب أن ينتظر الناس تهيئة الظروف السياسية حتى يتم فتح المنابر الحرة ؟ يقول عبّد الله : هذا سؤال تكمن إجابته في معطيات البيئة الإنسانية الجديدة، حيث المنابر الحرة ومخاطبة الناس في العالم، أصبحت أمراً متاحاً للجميع، ولا يحتاج لتهيئة سياسية، لقد هيئته التكنولوجيا. فمنحت الإنسان فرصة المنابر الحرة، التي غدت كوكبية.

ويؤكد عبد الله، أنه في :(خلاصة الأمر إن الإنشغال بأي أسئلة لا تخدم توضيح تلك الأمور للناس، التي حددها محمود محمد طه، هو إنصراف عن الواجب المباشر، وهو موقف سلبي) .

 

القيام بالواجب المباشر: الخروج عن مأزق الموقف السلبي

“لا تقف موقف سلبي، تعمل الواجب المباشر جهد الإتقان”

محمود محمد طه

 

الواجب المباشر

يعرف عبد الله الواجب المباشر عند الأستاذ محمود محمد طه، بأنه، هو الإستقامة، التي هي العيش في اللحظة الحاضرة. ويقول الأستاذ محمود محمد طه : فإذا استطاع المرء، أن يعيش في اللحظة الحاضرة، مشتغلاً بتجويد الواجب المباشر، من غير أن تذهب نفسه أسفاً على الماضي، ولا خوفاً من المستقبل، من غير أن يستخفه النصر، إذا نجح، أو أن يقتله اليأس، إذا أخفق، فإنه يكون قد ورد معين الحياة الكاملة، التي منها صدرت، في سحيق الآماد .. ويكون بذلك مستمتعاً بكمال حياة الفكر وكمال حياة الشعور، في داخل حصن آمن، ليس للشر إليه من سبيل. وبهذا يكون إنشغال المرء بالدقيقة المقبلة، أي مابعد اللحظة الحاضرة، إنشغال بغير الواجب المباشر، وهو إنشغال بما لا يعنيه..وأورد قائلاً : هناك حديث منسوب للحسن بن علي، يقول فيه :”من وثق بحسن إختيار الله له، لم يتمن غير الحالة التي هو فيها” ويوضح عبد الله : (أن اللحظة الحاضرة هي ميدان عمل الواجب المباشر، أما اللحظة المقبلة، كما يقول محمود محمد طه، فهي مخفية عنا بإرادة الله ولكن مكشوفة لنا شريعته في مستويات: الشريعة، والطريقة والحقيقة، لأن الحقيقة أيضاً شريعة، ولكن شريعة فردية .. الشريعة شريعة، والسنة شريعة ، والحقيقة شريعة، والتفاوت فقط في المقدار بينهم. هنا كلما كان الفرد دقيق في النظر، كلما عرف ما يجب عمله، ولذلك لا يقف موقف سلبي، وإنما يعمل الواجب المباشر جهد الإتقان، والإحسان.

 

ما الذي يحتاجة الواجب المباشر ؟

العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟

“إن شعارنا المستمر يجب أن يكون : أداء الواجب المباشر بإتقان .. يجب أن يكون أداؤنا للواجب محاكاة لصنع الله، وتخلقاً بأخلاقه”.

محمود محمد طه، 1972م

 

عن ذلك، أورد عبد الله، قول الأستاذ محمود محمد طه؛ إن المقدرة على التمييز بين الواجبات: أيها المباشر ؟ وأيها الذي يليه؟و كذلك تقديم الواجب المباشر، بعد تمييزه، يحتاج إلى قوة فكر لا تتوفر إلا بالعبادة المجودة، ولكن العبادة ليست معنية لذاتها، و إنما المقصود دورها في سوق الفرد للعمل والمعاملة. يقول الإستاذ محمود محمد طه: ” العبادة ليست مقصودة لذاتها .. العبادة وسيلة للعمل .. العبادة وسيلة للمعاملة.” و ليس للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملة الجماعة، لأن معاملة الجماعة في حد ذاتها عبادة. يقول الاستاذ محمود محمد طه : لم يقل المعصوم “الدين المعاملة” إلا ليؤكد ضرورة حسن خدمة الناس، وحسن القول للناس، وحسن الظن بالناس .. وكل هذا لا يكون إلا بإتقان العبادة. ويلاحظ أن المعصوم لم يقل “الدين العبادة” .. والعبادة هنا حاضرة، كما يقول الاستاذ محمود محمد طه لأنه لا يمكن أن تكون هناك معاملة للناس في مستوي حسن العمل فيهم، وحسن الظن بهم، إلا إذا كانت هناك عبادة، وعبادة صحيحة.

 

عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس:

 

أورد المؤلف عبارة للأستاذ محمود محمد طه، و هي:” لقد جاءني تعليق إبني المحبوب محمود المطبعجي على منشور أغسطس، قوله إن هذا المنشور (قدم الفكرة للواقع بقوة كادت ترفع الواقع للفكرة)، هذه العبارة أيقنتني وأبهجتني”

أوضح عبد الله، أن العبارة الواردة أعلاه تعود للأستاذ محمود محمد طه، والمقصود بمفردة الفكرة هي الفكرة الجمهورية. ويقول أن العبارة أصبحت من الادبيات الراسخة في المجتمع الجمهوري، كونها محور الواجب المباشر، والمرتكز الأساس للثورة الفكرية التي تقود للثورة الثقافية. ترتبط العبارة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الثورة الثقافية التي دعا لها محمود محمد طه منذ العام 1951م، وقد وردت الإشارة للثورة الثقافية في العديد من كتاباته وأحاديثه. من بين تلك الكتب على سبيل المثال لا الحصر، كتابه: أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية ، (1955م)، و في كتابه : لا إله إلا الله، (1969م)، ثم نشر الأستاذ محمود محمد طه في العام (1972م) كتاباً بعنوان الثورة الثقافية. ويوضح المؤلف:( و الثورة الثقافية عند الأستاذ محمود محمد طه ، هي النتيجة المباشرة “للثورة الفكرية”، والثورة الثقافية هي “نقطة إلتقاء الفكر بالواقع”. والفكر المقصود هو الفكر “الثائر”. و يوضح قائلاً : إذا التقى الفكر الثائر بالواقع فإن التغيير هو دائماً النتيجة .. ولايمكن إلا أن يكون التغيير سريعاً، و مع ذلك، فإنه يجب أن يكون تغييراً بغير عنف ..” فالثورة الثقافية، على هذا هي التغيير السريع للأحسن، من غير عنف .. هي تملك “سرعة” الثورة، و تبرأ من “عنف” الثورة .. فالثورة الثقافية، بإيجاز، هي علم، و عمل بمقتضي العلم .. وهذا ما به يحصل التغيير “.

ويوضح عبد الله:(ولما كانت معادلة التغيير عنده، تشتمل على الواقع والفكر، وأن التغيير يجيء نتيجة لتغيير الأفكار، فإن عبارة رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس، هي محور الواجب المباشر، الذي بموجب القيام به تهب رياح التغيير.

نلتقي في الحلقة التاسعة، وهي تتمحور في المحاور الآتية : واقع اليوم والحاجة المُلحة للفهم الجديد للإسلام؛ (الفكرة الجمهورية) الجمهوريون دعاة التغيير الجذري مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *