ما الذي ينقص الحرية والتغيير؟
ما الذي ينقص الحرية والتغيير؟
أمل محمد الحسن
الائتلاف السياسي الذي شكل قوى إعلان الحرية والتغيير جاء في ظروف سياسية استثنائية إبان ثورة ديسمبر العظيمة، وجمع الأحزاب المتحالفة هدف أكبر من تبايناتها الأيديولوجية والتنظيمية وهو إسقاط نظام البشير الفاشي القابض الذي خنق البلاد بقبضة أمنية قوية وغلّب فيها مصالحه الحزبية على حساب مصلحة الوطن والشعب.
بعد سقوط النظام بدأت الخلافات تطفح بصورة جهيرة داخل الأحزاب المكونة للائتلاف، ولم تتعامل معها بصورة تنظيمية مؤسسية واعية لتلافيها والتعامل معها من أجل المحافظة على الائتلاف الكبير الذي جمع اليسار واليمين والوسط لأول مرة في تاريخ السياسة السودانية.
لم تنتبه الأحزاب إلى استمرار التهديد من النظام المتشعب وأذرعه السياسية والفكرية والعسكرية والاقتصادية فاختلفت حول المطامع والرؤى وانشغلت عن التغيير البنيوي بالتغيير الرأسي وهو ما عجل باضمحلال تأثيرها.
على الرغم من رفض الأحزاب المستمر للاتهام الذي يقول بأنها تكالبت على السلطة وتزاحمت على الكراسي؛ إلا أن الأمر كان ساطعاً كالشمس! وعلى سبيل المثال لا الحصر ضم حزب المؤتمر السوداني سيدة فقط للمنافسة بها على منصب والية للولاية الشمالية، قبل أيام فقط من التعيين! وملف المحاصصات كبير ويشمل كافة الأحزاب أيضاً، وسنفرد له مساحة خاصة.
أما فيما يخص الرؤية الناقدة الحصيفة التي تقرأ المشهد السياسي بصورة حقيقية ناصعة لا يطالها لبس؛ فقد أثبتت ضعفاً كبيراً ربما يكون سببه قلة الخبرة في الممارسة التنفيذية.
أذكر في الليلة التي سبقت الانقلاب العسكري هاتفت أحد قيادات الصف الأول بالحرية والتغيير استفسره حول معلومات وردت إلينا من مصادر أمنية وعسكرية حول تحركات مريبة داخل القيادة العامة للجيش وفي محيطها.
كما أظهرت فيديوهات دخول سيارات عسكرية بأعداد كبيرة للخرطوم من ناحية مدينة بحري، ذكرت كل تلك المعلومات لأحد رؤساء الأحزاب، الذي طمأنني نافياً وجود أمر مريب ومؤكداً أن لديهم مصادر في ذات المؤسسات العسكرية والأمنية كانت ستفيدهم بوجود ما يريب.
واستيقظت الخرطوم على انقلاب عسكري! وتم اعتقال معظم القيادات السياسية لمدة زمنية ليست بالقصيرة!
أما القيادات الوزارية بحكومة حمدوك بمن فيهم من وزراء ومستشارين استبعدوا خيار الانقلاب العسكري تماماً بل منحه البعض نسبة لا تتجاوز الـ5%!
حادثة أخرى أكدت لي عدم قدرة قيادات الحرية والتغيير على قراءة المشهد السياسي بصورة جلية بناءً على ما يملكون من معطيات في أيديهم، بل وبناء على تجارب واقعية في تعاملهم مع العسكر، وهو حديث مع أحد قيادات الحرية والتغيير في اليوم قبل الأخير لورشة الإصلاح الأمني والعسكري.
تحدثت إلى القيادي مشيرةً له بالخلافات بين الجيش والدعم السريع حول تقديم ورقة مشتركة بينهما وإمكانية أن يحدث ما يعطل الخروج بتوصيات للورشة!
أيضاً فنّد القيادي كل ما سقته له من قراءات تشير إلى حدوث أمر جلل، مركزاً في حديثه على الدعم الخارجي الكبير للعملية السياسية.
أذكر أنني قلت له ذات الدعم الخارجي للتحول الديمقراطي لم يثن العسكر عن القيام بانقلاب، وأنهم أيضاً يتمتعون بدعم دولي وإقليمي من دول لا تؤمن بمصطلحات الديمقراطية بل ومصالحها تتعارض معها!
وفي اليوم الثاني لهذا الحديث غاب قائدا الجيش والدعم السريع عن الجلسة الختامية لورشة الإصلاح الأمني والعسكري وحتى اليوم لم تصل اللجان الفنية المشتركة لرؤية موحدة، وتم إلغاء الموعدين الذين تم ضربهما للتوقيع النهائي!
ما ينقص الحرية والتغيير أيضاً؛ الاستراتيجية في البناء! وهنا أكبر نموذج لغيابها هو “الشارع”!
في بدايات الحراك الثوري كانت هناك لجنة كبيرة وضخمة اسمها “لجنة الميدان” مازال بعض قيادات الحرية والتغيير يحملون هذا الاسم في قائمة الأسماء على هاتفي!
انضم إليها قيادات من جميع الأحزاب المكونة للائتلاف، قاموا بعمل ضخم وكبير ومنظم، وكسبوا احترام الشارع وكانت لهم الكلمة الأولى والأخيرة فيه!
بعد تشكيل الحكومة الأولى؛ غابت القيادات السياسية عن إدارة هذا الشارع، وانشغلت بأمور الدولة والحكم! اشتكى لي الكثير من رموز لجان المقاومة من إهمال القوى السياسية الذي وصل حد عدم الرد على اتصالاتهم!!
لم تستفد القوى السياسية من تجربة الكيزان في السيطرة على مفاصل الدولة؛ والتي بدأت من القواعد، بسيطرتهم على الأحياء عبر اللجان الأمنية، وعلى الشباب بالأمن الطلابي!
لا أعني بالطبع ذات الممارسات الكيزانية الباطشة، بل أعني العمل من الأسفل للأعلى، بالحديث المستمر والعمل المستمر مع القواعد الفاعلة والمؤثرة والتي تكون الكتلة الحرجة عند الضرورة ويتم بها الضغط على كل من يحاول الغدر بالثورة، ومواكب الثلاثين من يونيو للعام 2019 خير دليل وبرهان!
لم يكن من الصعب على الائتلاف الذي يضم الكثير من الأحزاب أن تفرغ بعض قياداتها للعمل الدائم مع الشارع؛ ومتى احتاجت لكرت الضغط الجماهيري رفعته باطمئنان، وذهابها لخيارات التفاوض ابتداءً يتم بمباركته ودعمه.
لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إنها فقدته بشكل كامل، سيكون هذا الحديث مجافياً للحقائق المجردة، فالشارع والمواكب الجماهيرية فقدت زخمها وهديرها منذ مغادرة الحرية والتغيير له، هذه حقيقة لا تنفع معها المغالطات.
من جهة أخرى؛ الخطاب الفكري لجماعة الاخوان المسلمين مازال هو المسيطر على كيان الشعب، ومازال تخويف الناس بالدين آلة فعالة لحصد الكراهية والخوف من التغيير. وفي هذا المجال كان ينتظر تحالف الحرية والتغيير العمل الكثير جداً لتغيير بنية الوعي المجتمعي نحو مفاهيم الديمقراطية والحرية والعدالة.
ظهر هذا الخطر عندما رفض عضو مجلس السيادة الانقلابي شمس الدين كباشي في الورشة التي جمعت الحكومة مع حركة عبد العزيز الحلو، حول علاقة الدين بالدولة، لعبارة (علمانية) في الورقة الختامية بوصفها عبارة “مفخخة” حد تعبيره!!
وبالنظر إلى تركيبة الوعي الجماهيري فهي بالفعل كما وصف، لأن الكيزان ربطوها بالكفر طوال 30 عاما من حكمهم، ولا يمكن التعامل معها بدون تفكيكها عبر ندوات فكرية وعلمية، كثيفة وكثيرة ومستمرة، وتجوب السودان!
لكم أن تتخيلوا أن شاباً جامعياً في مطلع عقده الثالث في نقاش يقول إنه سعيد بانقلاب العسكر على حكومة حمدوك، لأنه حسب تقديره كانت حكومة كفر تدعو إلى المثلية!!
وعندما سألته كيف كانت تفعل ذلك وما هو دليله ليحكم عليها هذا الحكم؛ قال إن حمدوك كان قد عين سيدة في منصب يسمى “النوع الاجتماعي”!!!
بذلت الكثير من الجهد لأشرح له أن هذه العبارة تعني إشراك النساء بصورة أكبر في الحكومة والمناصب دون فائدة!!
ما ينقص الحرية والتغيير القراءة الناصعة للمشهد السياسي، حسب المعطيات والتجارب وفهم الآخر، وهذا يمكنها من اتخاذ القرارات الصحيحة، واختيار مواطئ قدمها واستعدادها المسبق بالبدائل والخطط الثانية والثالثة!
الأحزاب السياسية عانت مثل أي مؤسسة أو كيان في السودان من ممارسات حكومة البشير التي عبثت بها ما استطاعت لذلك سبيلا، عبر الاعتقالات والاختراقات ومنعها من ممارسة عملها ومحاصرتها بالحرب الاقتصادية والمنع من ممارسة أنشطتها!
إلقاء كل اللوم عليها سيكون مجرد بحثنا عن شماعة نلقي عليها عبء الخراب الذي طال البلاد، نفرغ عليها حمولات غضبنا، لكنه لن يكون أمراً مفيداً في عمليات البناء الوطني الهيكلية.
لابد أن يكون نقدها من باب إصلاحها، بلا تخوين أو اتهامات بانعدام الوطنية، في نهاية الأمر لن يكون هناك تحول ديمقراطي حقيقي بغيابها، ولن تتم أي انتخابات في المستقبل القريب بدونها.
المصدر: صحيفة التغيير