ما اتجاهات حرب السودان بدخولها العام الثالث؟

دخلت حرب السودان عامها الثالث مع استمرار القتال بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان “حميدتي” مخلفة آلاف القتلى والجرحى وملايين النازحين، من دون أن تلوح في الأفق أية بارقة أمل على قرب انتهاء هذا الصراع الذي اندلع تحديداً في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 بسبب خلاف بين الحليفين السابقين (البرهان وحميدتي) على خطة سياسية مدعومة دولياً للانتقال بالسودان إلى حكم مدني.
انفجر هذا القتال بداية في العاصمة الخرطوم لتتسع رقعته في أقل من شهر لتشمل ولايات دارفور وكردفان وسنار والجزيرة والنيل الأبيض، حيث كانت الكفة تميل لمصلحة “الدعم السريع” التي بسطت سيطرتها على أجزاء واسعة من تلك الولايات، إلا أن الجيش تمكن أخيراً من استعادة عدد من المدن والقرى في ولايات عدة، محققاً انتصارات متلاحقة ومؤثرة في جبهات القتال المختلفة.
ففي ظل هذا الواقع كيف ينظر المراقبون إلى مسار واتجاهات هذه الحرب وما مآلاتها وتأثيراتها في مستقبل السودان؟
حواضن اجتماعية
يقول رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي والقيادي في تحالف القوى المدنية (صمود) بابكر فيصل، “واضح أن الجيش السوداني يسعى من خلال معاركه التي يقودها حالياً في جبهات عدة للسيطرة على ولايتي الجزيرة والخرطوم، ومن ثم إعلانه انتهاء الحرب بسحقه التمرد والاتجاه لتشكيل حكومة لإدارة الفترة الانتقالية كما يروج لذلك في ضوء ما أطلقه في ما يسمى الحوار السوداني السوداني، وكأنه انتصر انتصاراً كاملاً على (الدعم السريع)، والبدء في الحديث عن خريطة طريق تتضمن رؤيته للعملية السياسية والخروج الآمن لـ(الدعم السريع) بتجميع قواته في معسكرات خارج الخرطوم، فضلاً عن اخلاء دارفور وكردفان من أي وجود لتلك القوات”. وتابع، “أما (الدعم السريع) فاتجهت للانضمام إلى تحالف الميثاق التأسيسي (تأسيس) الذي يضم مجموعة من القوى المدنية والحركات المسلحة بما فيها الحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، والذي ينص على تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة (الدعم السريع)، بالتالي من المؤكد أن هذا المشهد سينتج منه اتساع رقعة الحرب، بخاصة في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان، وذلك في أعقاب التنسيق الذي تم أخيراً بين (الدعم السريع) والحركة الشعبية شمال”.
ويردف فيصل، “في ظل هذا الواقع لا أتوقع أن يكون هناك تفاوض في المستقبل القريب لأسباب عدة أبرزها أن كل طرف من أطراف الحرب يريد أن يعزز مواقعه وموازين القوة لديه في الميدان، فضلاً عن أن العالم الخارجي مشغول بقضايا كبرى فنجد أن الولايات المتحدة منذ تنصيب دونالد ترمب رئيساً لم تعلن سياسة واضحة تجاه ما يجري في السودان، بل لم تعين مبعوث خاص له، إضافة إلى انشغال السعودية الراعي الرئيس لمنبر جدة للوساطة بين طرفي الحرب السودانية بجهود وقف إطلاق النار في أوكرانيا في ضوء التنسيق مع واشنطن”.
ويواصل رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي والقيادي في تحالف القوى المدنية (صمود)، “كما أن هناك تطورات اقليمية قد يكون لها تأثير في الشأن السوداني منها وجود نذر حرب بين أريتريا وإثيوبيا، إلى جانب توقع انفجار الوضع في جنوب السودان، مما يزيد من تفاقم الحرب في السودان والإقليم برمته، وهو ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً وخطورة”.
ويستطرد فيصل، “في تقديري إن الطرفين المتحاربين يتجهان خلال الفترة المقبلة نحو التصعيد العسكري بصورة أكثر شراسة مما كان في السابق، حيث كل طرف يسعى لإثبات وجوده ميدانياً على الأرض حتى يثبت أنه الطرف الشرعي، لكن من المستحيل أن يحسم أي من الطرفين هذه الحرب عسكرياً، فهي ليست حرب تقليدية كما كانت حرب الجنوب التي استمرت 40 عاماً أو حرب دارفور التي ظلت مستمرة لعقدين”.
ويبين أن “هذه الحرب تسندها حواضن اجتماعية ضخمة في كل مناطق البلاد، سواء التي تشهد صراعاً أو الآمنة، وأصبح القتال يدور بين الطرفين على بعد 300 متر، فضلاً عن اتساع دائرة استخدام المسيرات في هذا الصراع واستهدافه كل المدن بلا استثناء، مما يجعلها حرباً شاملة ومختلفة تماماً عن أي حرب أخرى”. ويرى، “للأسف، إن القوى المدنية الديمقراطية على رغم تحركها المبكر لوقف هذه الحرب وما بذلته من جهود حثيثة لإقناع الطرفين بوقف العدوان بينهما تفادياً لمزيد من القتل والدمار والتشريد، فإن هذه الجهود لم تجد الاستجابة، ومع ذلك فإن تلك الجهود ستستمر من قبل تحالف القوى المدنية الديمقراطية (صمود) برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، والتي وضعت خريطة طريق تتضمن عقد اجتماع مشترك بين مجلس السلم والأمن الأفريقي ومجلس الأمن الدولي، بحضور قائدي الجيش و(الدعم السريع)، وحركتي عبدالعزيز الحلو، وعبدالواحد محمد نور، كما تقترح المبادرة وقف فوري لإطلاق النار، وعقد مؤتمر للمانحين الدوليين لسد فجوة تمويل الحاجات الإنسانية التي حددتها خطة الاستجابة الأممية، وإطلاق عملية سلام شاملة”.
وختم رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي حديثه، “في رأيي أنه لن يكون هناك تغيير في وضع الحرب إلا في حال وجود اهتمام دولي وممارسته ضغوط شديدة على أطرافها ليس كما حدث في مؤتمر جنيف الذي عقد في الـ14 من أغسطس (آب) 2024، فضلاً عن توصل الأطراف المعنية في الاقليم إلى قناعة بأن هذه الحرب ستهدد الاقليم إذا لم تتوقف”.
أزمات متراكمة
في السياق ذاته يوضح المتخصص في الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور أن السودان “ظل يعاني أزمات متراكمة منذ الاستقلال في 1956 وحتى الآن، وكانت مظاهرها متعددة من أبرزها حرب الجنوب التي رافقها تخبط سياسي من قبل النخب السياسية السودانية وأنظمة الحكم التي كان غالبيتها ديكتاتورية عسكرية، حيث لم تستطع الأحزاب السياسية أن تطور نفسها وأن تحافظ على الحكم بعد ثلاث ثورات شعبية في 1964 و1985 و2019، بل كانت تلك الحقب العسكرية بخاصة حكم الإسلاميين (1989 2019) وبالاً على الشعب السوداني فقد دمر جميع قدرات البلاد وعمق الأزمة السياسية والاقتصادية وزاد من الشروخ الاجتماعية، فضلاً عن تعميقه الفساد الذي عرف هيكلياً بنظام التمكين السياسي، والعودة إلى النظام القبلي وانتشار خطاب الكراهية”.
ويضيف محمد نور، “هذه التراكمات المتعددة أسهمت في عدم استقرار السودان سياسياً طوال هذه العقود، بالتالي أصبح متخلفاً اقتصادياً ولا توجد به أي تنمية أو بنيات تحتية على رغم الموارد الكبيرة التي يمتلكها، فضلاً عن انعدام الاستثمار الأجنبي وعدم اندماجه في المؤسسات الإقليمية والدولية، وجاءت حرب الـ15 من أبريل لتسدد الضربة القاضية لمجمل المكونات السياسية والعسكرية والمدنية وأصبحت الأزمة أشد عمقاً، ناهيك بالخلافات العميقة بين كل مكوناته، وبات من الصعب الوصول لاتفاق سلام لان المسألة لم تعد بين الجيش و(الدعم السريع)، وإنما هي أزمة عامة وشاملة، فضلاً عن التدخلات الدولية والإقليمية التي تغذي هذا الصراع”. ويتابع، “الآن بدأت بوادر الانقسام بتشكيل حكومتين تتبعان لكل من طرفي الحرب، ومن المؤشرات أن جميع هذه المتغيرات لم تستطع الوصول إلى تسوية مع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور وحتى حركات دارفور الأخرى التي توصلت إلى اتفاق سلام جوبا انقسمت فيما بينها، بالتالي حتى إذا استعاد الجيش كامل المناطق التي كان يسيطر عليها قبل اندلاع الحرب ستكون هناك جيوب خطرة، وستأخذ الحرب صوراً مختلفة يمكن أن تؤدي إلى حرب خارج المدن، بخاصة في المناطق الحدودية مع جنوب السودان التي تشهد عدم استقرار أمني”.
ويرى المتخصص في الاقتصاد السياسي أن “السودان لم يحظَ بحكومة تجد القبول الداخلي والخارجي الذي يمكنها من إرساء نظام حكم مستقر متوافقاً مع الوسط الإقليمي والمجتمع الدولي، مما يمكنه من الوصول إلى مؤسسات التمويل الدولية وجذب الاستثمار الأجنبي وتحويلات المغتربين، بالتالي فإنه في ظل هذا الواقع سيكون أمام أزمة عميقة وندرة كبيرة في الموارد المتاحة ولن تكون هناك أي فرص للتنمية، وهي مشكلة كبيرة، بخاصة أن البلاد تعاني مجاعة تسببت في انعدام الأمن الاجتماعي وانفلات أمني غير مسبوق، مما يجعلها في فوضى عارمة ومقلقة، وهي مؤشرات وتداعيات خطرة وكارثية ستقود من دون أدنى شك إلى عدم استقرار السودان لسنوات طويلة”.
وضع شائك
من جانبه يقول الباحث في الشؤون العسكرية محمد مقلد بأن “ما يحدث ويدور الآن في السودان أمر مثير للغاية ويدعو إلى الشفقة على هؤلاء الضحايا بكل صورهم وتنوعاتهم في الداخل والخارج، بخاصة أن كل المعلومات المتوافرة تؤكد أن حجم الآلام والمعاناة التي يعيشها المواطن قد زادت ومعها تفاقمت الأوضاع بصورة مزرية لا يمكن وصفها، ومع هذا التردي لا يلوح في الأفق نهاية لهذه الحرب اللعينة التي امتدت لتدخل عامها الثالث وفي تحدٍّ صارخ لرغبة وارادة الشعب في وقفها وإنهاء هذه التصفيات الدموية والقتل على الهوية، إذ نجد أن قوى الشر والظلام المتوثبة للعودة للحكم مرة أخرى ممثلة في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وأذرعها العسكرية في الجيش والميليشيات المتماهية معها قد انتهجت مسلكاً رافضاً لوقف هذا القتال لكونه خيارها الوحيد للوصول لسدة الحكم”. ويضيف، “من المؤكد أن هذا الوضع الشائك والمعقد سيزيد من اتساع رقعة الحرب لتشمل اقاليم ومدن أخرى، وقد يكون بداية لنذر صراع إقليمي، بخاصة أن هناك بوادر تشير إلى مشاركة ميليشيات من دول الجوار بصورة فاعلة في هذه الحرب، كما لا ننسى الدعم التسليحي والمعنوي للفرقاء المتحاربين من بعض الدول والذي بدوره سيطول أمد هذا الصراع دون أن تكون هناك معرفة لنهايته”.
ويوضح مقلد، “الآن وبعد التوقيع على اتفاق بين قوات (الدعم السريع) والحركة الشعبية شمال لدمج قواتهما والمشاركة في العمليات بكل محاور القتال تكون كل القوات بمناطق التماس قد انفتحت وشاركت في عمليات مشتركة في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان، وهو ما يؤكد أن هناك تحضيرات لعمل عسكري كبير قادم”.
ويشير إلى أن “انسحابات قوات (الدعم السريع) من بعض مناطق ارتكازها غير الحيوية في الخرطوم قد عززت من انتشار ميليشيات الحركة الإسلامية التي تقاتل إلى جانب الجيش ببعض أحياء المدن الثلاث، وهو ما انعكس سلباً علي حياة المواطنين الذين باتوا يعانون انتشار عمليات النهب والسلب والاعتداءات الجسدية والتحرش اللفظي من قبل أفراد الجيش والميليشيات والمستنفرين، بحيث أصبحت حياة المواطنين جحيماً لا يطاق”. ويواصل، “لا أرى منظوراً قريباً لوقف الحرب إلا بوحدة كل القوى السياسية وترك وتجاوز كل الخلافات التي ستقود لتفتيت البلاد، فضلاً عن مناشدة المنظمات الدولية والمجتمع الدولي للتدخل الفوري بإصدار قرارات تنفيذية تطالب بوقف هذا الصراع فوراً وتحمل المسؤولية الكاملة للطرف المتعنت الرافض لوقف الحرب من خلال فرض عقوبات دولية تشمل كل رموزه وقياداته”.
ويقول الباحث في الشؤون العسكرية، “في تقديري أنه مع دخول الحرب عامها الثالث ليس هناك خيار غير إنهاء هذا الصراع بالوسائل السلمية بدخول الطرفين المتحاربين في مفاوضات مباشرة من أجل إزالة الغيمة عن هذا الشعب المغلوب على أمره وأن يعود إلى وطنه من شتات النزوح حراً كريماً آمناً، بخاصة أنه من المستحيل حسم أي طرف هذه الحرب مهما امتلك من سلاح وعتاد وغيره، فكل حروب العالم انتهت بالتفاوض”.
نزاعات مؤجلة
إلى ذلك يوضح المتخصص في مجال الإعلام النور عبدالله جادين، “يبدو أن النزاعات الطائفية والعرقية والجهوية والمناطقية والقبلية والسياسية المؤجلة في السودان منذ استقلاله في منتصف خمسينيات القرن الماضي قد حان وقت انفجارها مجتمعة مع ضعف تماسك الدولة وبروز كل الهشاشة التي كانت مختبئة خلف التسويات السياسية، وفي ظل هذا الواقع الجديد الذي فجرته الحرب يحتاج السودان إلى قيادة عبقرية ملهمة ومتصالحة مع الشعب ومع دول الجوار الإقليمي ومع القوى العظمى في العالم لتمتلك مفاتيح إنقاذ البلاد وإخراجها من مصير التمزق والتقسيم بسبب هذه الهشاشة، فالأمة السودانية لم تنصهر بعد ولم يتبلور مفهوم الوطن الواحد الذي يتساوى فيه الجميع أمام العدالة والسلطة والثروة”.
ويضيف جادين، “ما زالت شهية المناطق السودانية والقبائل شرقاً وشمالاً وغرباً وجنوباً مفتوحة لتكوين تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية بحجة الدفاع عن المنطقة أو الإقليم، وهذا لا يبشر بتوقف الحروب وتحقيق السلام، لأن هذه التكوينات أياً كان اسمها ميليشيات أو دروعاً أو قوة مشتركة أو جهادية قابلة للتضخم وتكوين علاقات خارجية وزيادة طموحها في أخذ حصتها في الثروة والسلطة بالقوة، وهذا أقرب السيناريوهات حدوثاً، بخاصة في ظل عدم وجود سلطة تفرض هيبة الدولة بالقانون وبالقوة وبالعدالة”. ويستطرد، “أول آثار هذه الحرب هو سعي الجميع بما فيهم الحكومة إلى امتلاك السلاح بدلاً من الغذاء والدواء والصحة والتعليم والطرق والتنمية، وبطيعة الحال سيؤدي هذا الواقع إلى توقف استخراج الثروات الطبيعية وخيرات البلاد، سواء في خارج الأرض أو باطنها، وسيتوقف الاستثمار من الخارج لعدم توفر الامن والانضباط والمحاسبة والقانون”.
ويرى المتخصص في مجال الاعلام أن “ابتعاد البلاد عن السيناريوهات المتشائمة يعتمد على حدوث صحوة تؤدي إلى الم شمل القوى السياسية المتخاصمة والممزقة والوصول إلى مصالحات وطنية وغرس ثقافة السلام والوحدة الوطنية وإزالة خطاب الكراهية والغبن وخلق علاقات خارجية تقدم السودان بوجه جديد يقبله العالم ويتعاون معه”.
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة