أحمد عثمان جبريل
ما يُقال أمام الكاميرات ليس دائمًا هو ما يُقال في الغرف المغلقة.. هكذا هو عالم السياسة، بعض اللقاءات تُعقد للتصوير، وأخرى تُعقد لتغيير المسارات.
زيارة وزير الخارجية المصري إلى بورتسودان، لم تكن عابرة، ولا يمكن قراءتها بمعزلٍ عن حراك إقليمي بدأ يتحرّك على نار هادئة.. وربما، على وشك أن يبرد فجأة، أو ينفجر.
الطرق التي لا تؤدي إلى المستقبل، ليست سوى تكرارٍ للكارثة
ميشيل فوكو
هناك لحظات، اعتادت عليها الدبلوماسية، وتحفظها عن ظهر قلب، وهي الصمت في محراب أهل الكلام.. فالظرف يحتم تغيير مسار الكلمات لتبدو مهذّبة، وتُقال أمام الكاميرات. كرسائل مشفّرة، محمولة على نبرة الصوت، وعلى طريقة الجلوس، وعلى ترتيب الصور، بل أحيانًا في ما لا يُقال أكثر مما يُقال.
وحين جلس وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إلى جوار الفريق عبد الفتاح البرهان في بورتسودان، بدأ المشهد تقليديًا على سطحه: مسؤول مصري رفيع يزور قائدًا سودانيًا، ويُجدد على مرأى الإعلام، التأكيد على وحدة السودان ودعم مؤسساته، وفي مقدمتها القوات المسلحة.
لكن الحقيقة لم تكن في الكلمات.. فالوزير المصري لم يأتِ من القاهرة، بل من الرياض، حيث أمضى يومًا حافلًا في مشاورات غير معلنة، خرج منها محمّلًا برسائل تتجاوز المجاملة، وتقترب من التخاطب الجاد حول مصير الحرب في السودان، وأكلافها، وحدود الصبر الإقليمي عليها.
من القاهرة إلى الرياض إلى بورتسودان، ومع قصر المسافات حمل عبد العاطي “نقطة نظام” ناعمة “لا أحد يقول إن الحل العسكري مستحيل، لكن لا أحد يراه ممكنًا دون كُلفة مدمّرة.. الأشقاء في الخليج، الذين كانوا حتى الأمس القريب على مسافة دعم أو تفهّم، بدأوا الآن يتحركون بميزان جديد، تُحركه المصلحة، وتحكمه الواقعية”.
لم يكن توقيت هذه الزيارة مصادفة. فقبل يوم واحد فقط، كان بن زايد في القاهرة، في زيارة قصيرة للسيسي، لكنها محمّلة بإشارات كثيفة.. لم تُعلن تفاصيل اللقاء، لكن من عرف أجواءه همس بأن الملف السوداني كان حاضراً بثقله.. لقاء القمة بين أبوظبي والقاهرة لم يكن لتنسيق موقفٍ تقليدي، بل لإعادة ضبط البوصلة في ملف يبدو أنه أصبح (هم) إقليمياً بدأ يخرج عن السيطرة، وتقاطعاته باتت تتجاوز حدود الخرطوم.
القاهرة، بدورها، لا تنظر إلى السودان من نافذة التعاطف وحده.. إنها تنظر إليه من منظور الأمن القومي، والاستقرار الإقليمي، وميزان القوى في محيط يضجّ بالتحولات.. ولذا، جاءت زيارة عبد العاطي أشبه بزيارة موفد يحمل أكثر من صوت، وأكثر من تحذير، وأيضًا أكثر من عرض.
في لقائه مع البرهان، لم يُبالغ الوزير المصري في التجميل.. بل كان حديثه مزيجًا من الطمأنة والمكاشفة” مصر لا تزال ترى في الجيش السوداني عمود الدولة، لكنها في الوقت نفسه تُدرك أن استمرار الحرب دون أفق سياسي، هو مقامرة تُرهق الجميع، وفي مقدمتهم الخرطوم”.
ثم جاءت الدعوة. حضور البرهان لافتتاح المتحف المصري الكبير نهاية الشهر الجاري.. قد تبدو الدعوة، على ظاهرها، بروتوكولية ثقافية.. لكنها في العمق، دعوة إلى التقاط لحظة، والوقوف على انتهت إليه.. لحظة يُمكن أن يظهر فيها الرجل من على منبر دولي، لا كجنرال محاصر، بل كقائد دولة مدعوّ.. دعوة تسمح له بالخروج من المشهد الميداني المُرهق إلى مشهد دبلوماسي يمنحه هوامش جديدة، إن أحسن توظيفها، وقرأ مآلاتها
ما لم يُعلن في الإعلام، هو أن الدعوة ليست مكافأة، بل عرض.. عرض بفتح باب سياسي، عبر هدنة إنسانية، تمهّد لحوار يرتب لمشهد جديد في الأزمة السودانية.. عرضٌ يتقاطع مع تحركات الرباعية الدولية (مصر، السعودية، الإمارات، أمريكا) التي بدأت تُبلور خطوطًا أولية لتسوية جديدة، تُبقي للجيش موقعه، لكنها لا تُغلق الباب أمام شراكة وطنية أوسع.
تقول المصادر العليمة، أن الرسالة التي حملها عبد العاطي، لم تكن مصريّة خالصة.. بل كانت أقرب إلى مذكرة صامتة من الإقليم، تقول للبرهان” ما زال هناك وقت، لكنه ليس طويلًا. بإمكانك أن تكون جزءًا من الحل، أو أن تجد نفسك خارجه حين تتقدّم عجلة التفاهمات”.
السودانيون، الذين أنهكتهم الحرب، لا ينتظرون وصفة مثالية، لكنهم يعرفون أن استمرار المعركة ليس ممرًا إلى السلام.. وأن انتظار الحسم قد يُفضي فقط إلى مزيد من الانهيار، إنهم بحاجة إلى اختراق، ولو كان صغيرًا، يُعيد المعنى للسياسة، ويمنح الأمل لبلدٍ أُنهك بما يكفي.
وأضافت المصادر تقول “في بورتسودان، لم يُطلق عبد العاطي مبادرة، لكنه حمل ملامحها.. لم يُعلن شروطًا، لكنه لوّح بها.. ولم يأتِ ليُبلغ رسالة نهائية، بل ليفتح هامشًا للتدارك والاختراق”.
بقي أن نقول” ما تبقى هو: أن يُحسن البرهان قراءة الرسائل، لا بما اعتاده من حسابات القوة، بل بما يتطلبه ظرف السودان، الذي لم يعد يحتمل المزيد من النزف.. ولكن السؤال هنا..
هل يستجيب؟.. أم أن القطار سيُغلق أبوابه، ويتركه في محطة التردد ويغادر، دون أن يُمهله الوداع حتى؟.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير