
أحمد عثمان جبريل
في الوقت الذي ينتظر فيه السودانيون بارقة تُعيد ترتيب الفوضى، وتضع حدًّا لمعاناة تجاوزت حدود الاحتمال، خرجت السلطة بقرار يقطع آخر خيط يمكن أن يقود إلى مخرج.. فبدل أن تُفتح نافذة للحل، أُغلقت نافذة جديدة، وبدل أن تُلتقط فرصة للتهدئة، جرى تفويت موعد آخر مع العقل.. هنا، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: “ماذا بعد رفض البرهان للرباعية، وما الذي ينتظر السودان في الأيام القادمة؟
السلطة التي تخشى المرآة تجعل من ظلالها حقيقة، ومن أوهامها قدراً”. عبد الرحمن بدوي
(1)
لم يأتِ رفض البرهان للرباعية كتعبير عن سيادة وطنية تُستعاد، بل كصدى لذهنية مأزومة تخشى الاقتراب من حلّ قد يكشف عري الواقع، ويضع نهاية لمسارٍ طال أمد مراوغاته.. ففي اللحظة التي كان ينتظر فيها السودانيون بارقة عقل تُنقذ ما تبقّى من وطن تتناهبُه الحروب، وتنهشه الميليشيات وتبتلعه الدولة العميقة، خرج الرجل بموقف يعيد إنتاج الخطأ ذاته: “الالتفاف على الفرص، وتقديم العناد على المصلحة، والهروب من المساءلة باسم الكرامة”.
(2)
إن هذا الرفض لم يكن كلاماً دبلوماسياً، بل موقفاً يُعلن بوضوح أن السلطة محصورة في دائرة لم تعد تسمع سوى صوتها، وتعيش داخل سردية صنعتها بنفسها ثم صدّقتها.. فالرباعية، مهما اختلفنا حول مقاصدها، لم تكن تقدّم حلاً كاملاً، لكنها كانت تمهّد لممرّ يمكن البناء عليه.. لكن البرهان اختار أن يقطع هذا الممرّ قبل أن يكتمل، كأن في داخله خوفاً من أيّ حلّ قد يضعه أمام مسؤولياته، أو يعيده إلى حجم الحقيقة التي تهرّب منها منذ اللحظة الأولى للحرب.
(3)
لقد أصبح الخطاب السياسي للسلطة الحالية مشدوداً إلى قاموسٍ قديم (للحركة الإسلامية) اعتدناه منذ سنوات طويلة: “المؤامرة، التدخل، السيادة، الكرامة”. كلماتٌ استُهلكت حتى ذبلت، ولم تعد قادرة على إقناع أحد، لأنها تُستخدم دائماً لتغطية هشاشة القرار لا لحماية الوطن.. فكيف يمكن لمن فقد السيطرة على جيشه في الأيام الأولى للكارثة أن يقدّم نفسه اليوم كحارس السيادة؟ وكيف يمكن لمن سمح للدولة العميقة للحركة الإسلامية بأن تعود من نوافذ المؤسسة العسكرية أن يحدّث الناس عن استقلال القرار الوطني؟.
(4)
إن الأيام التي تلت موقف الرفض لم تُظهر أي رؤية بديلة، ولا خطة حقيقية، ولا مشروع يخرج البلاد من نفقها.. كل ما ظهر هو استمرار في الدوران حول الذات، وإعادة تدوير لخطاب فقد صلاحيته.. وكأن السلطة لا تبحث عن حلّ، بل تبحث عن زمن إضافي تبقى فيه في موقع يسمح لها بمراوغة الاستحقاقات، بينما الواقع على الأرض يتدهور بوتيرة لا ترحم. فقد تحولت البلاد إلى مسرح مفتوح للانهيارات:” اقتصادٌ يتفكك، أمنٌ يتبخر، نزوحٌ يتضاعف، وصمت رسمي يكتفي بالتصريحات العالية فيما الأرض تهوي، أطفال بلا تعليم وشباب بلا مستقبل وأسر تكابد لقمة العيش والمسكن في المنافي.
(5)
والمفارقة أن قراراً بحجم “رفض مبادرة دولية واسعة” لم يتبعه أي جهد لإقناع السودانيين بأن هناك بديلاً وطنياً ناضجاً.. لم تُقدّم رؤية. لم يُطرح مسار. لم تُفتح مشاورات. كأن السلطة تكتفي برفع الصوت، ثم تستكين للصدى، وتتراجع إلى صمتٍ طويل يترك الناس يواجهون مصيرهم وحدهم.. وهذا يجعل السؤال ملحّاً:” إن لم يكن هذا المسار مقبولاً، فأين هو المسار الذي تقترحه السلطة؟ وإن لم تكن الرباعية طريقاً، فأيّ طريق تريد أن تسلكه وهي لم تقدّم حتى الآن إلا طرقاً تؤدي إلى مزيد من الانهيار؟
(6)
الناظر للأمر بعين فاحصة وعقل ثاقب يلاحظ بأن ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً، أن رفض البرهان لم يأتِ من موقع قوة، بل من موقع يعكس تناقضات داخلية حادة.. فالدولة العميقة التي استعادت أنفاسها داخل الجيش تحكم جزءاً من القرار، بينما الضغوط العسكرية والاقتصادية تلتهم ما تبقى من قدرة المناورة.. وفي ظل هذا المشهد، يصبح الرفض ليس موقفاً سيادياً، بل هروباً من لحظة لا بد أن تأتي: لحظة الاعتراف بفشل كامل في إدارة الدولة، وبحربٍ خرجت من اليد، وبسلطةٍ لا تملك سوى أن تعيد إنتاج خطاب بلا أثر.
(7)
وهكذا يصبح سؤال: “ماذا بعد رفض البرهان للرباعية؟” سؤالاً بلا إجابة واضحة. كل المؤشرات تقول إن البلاد تقف على شفا مرحلة أكثر تعقيداً: ومقبلة على توسع رقعة الانهيار، زيادة عزل السودان عن المحيط الإقليمي والدولي، وتفاقم المأساة الإنسانية التي تجاوزت حدود الصبر.. وإذا كان البعض يظن أن رفض المبادرة سيمنح السلطة وقتاً إضافياً، فهؤلاء واهمون.. فالواقع يؤكد أن الزمن لم يعد يعمل لصالح أحد، وأن البلاد تمضي نحو هاوية لا تحتاج إلى دافع جديد.
(8)
إن السودان لا يحتاج إلى خطاب مرتفع الصوت، بل إلى قرار شجاع.. لا يحتاج إلى اتهام الآخرين، بل إلى أن تواجه السلطة نفسها.. لا يحتاج إلى رفع شعارات السيادة، بل إلى دولة قادرة على حماية مواطنيها وصون مستقبلهم.. إن الطريق إلى الخروج من هذا الجحيم ونفقه المظلم يبدأ من الاعتراف، لا من المكابرة. ومن الشفافية، لا من الغموض.. ومن الشجاعة، لا من الاستعاضة عن الفعل بالبيانات.
(9)
لم يتبق إلا أن أقول:” سيبقى هذا الوطن العظيم أكبر من كل التكتيكات الصغيرة التي تُدار بها السلطة اليوم.. فقد علّم السودانيون العالم أنهم قادرون على رفع وطنهم حين تسقط السلطة، وأن قوة الشعب تتجاوز كل حسابات مؤامرات الغرف المغلقة.. ومع كل انكسار، تظهر فرصة جديدة لتصويب المسار، لكن بشرط أن يتوقف الذين في الحكم عن إحراق الجسور قبل الوصول إليها.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير
