اخبار السودان

مؤانسة رمضانية (8) صفحات ضائعة من الادب السوداني “2”

فيصل محمد صالح

 

أواصل ما بدأته حول الفجوات التي اعتقد بوجودها والفترات المعتمة التي لم يسلط عليها ضوء في تاريخ حركة الادب والفن في بلادنا.

دار جدل بيني وبين الاستاذ السر قدور حول بيت شعر للشاعر يوسف مصطفى التني “فديتك يا مولاي قدر عواطفي .. وهل أنا يا مولاي إلا عواطف” … إذ قراته بتسكين الدال في كلمة “قدْر” بمعنى “مثل أو ما يساوي عواطفي” … فقال لي أستاذ السر أن البيت يقرأ بتشديد الدال مع الكسر “قدِر عواطفي”. بمعنى أنه فعل أمر ملطف بالرجاء. ونتيجة لهذا الجدل أحضر لي ديوان التني، وكان هدية ثمينة لكتاب مطبوع في الخمسينات يندر أن يجد الإنسان نسخة منه.

قصائد الديوان غير مؤرخة ولكن لأن الشاعر من مواليد 1907م، فمن الممكن أن تكون القصائد محصورة ما بين الثلاثينات والخمسينات، وأدهشني وجود قصيدة بالشعر المرسل أو الحر، بينما كل القصائد الاخرى من الشعر العمودي. صادف ذلك جدال دار في الصحافة الثقافية المصرية حول ريادة الشعر المرسل في العالم العربي والمعقود لواءها للشاعرة العراقية نازك الملائكة منذ منتصف الاربعينات. إذ نشر أحد النقاد أنه وجد نصا لشاعر مصري قبل ذلك التاريخ. لكن كثير من النقاد المصريين، وإن ثمنوا مسألة اكتشاف بدايات ومحاولات شعراء كثيرين سابقين، رأوا بأن الريادة لنازك الملائكة مردها هي أنها لم تقدم محاولة واحدة وتنزوي، لكنها نشرت أكثر من ديوان، وكتبت ونظرت لمسألة الشعر المرسل بأكثر مما فعل غيرها.

وبالتالي فإن قصيدة التني لن تجعله، ربما، رائدا لهذا التيار الشعري، لكنها تضاف لسجل المحاولات الحثيثة للخروج من أسر الشعر العمودي، وتضاف لمحاولة بروف عبد الله الطيب نفسه في قصيدة “الكأس التي تهشمت”..

” أترى تذكر لما أن دخلنا الفندق الشامخ، ذاك الفندق الشامخ فى ليدز، ذاك الرحب ذاك الصاخب الصامت، ذاك الهائل المرعب اذ كنا معا، أنت واليانوس والاخرى التى تصحب اليانوس، والأبصار ترمينا بمثل الرشقات، وسهاماً خانقات، فجلسنا فى قصى ثم قمنا وجلسنا فى قريب، زاخر بالنور ضاح، نتساقى روح إيناس وراح، وجدال جده كان مجناً للمزاح … الخ”.

هذه المحاولات مهمة جدا لمن يحاول دراسة تطور حركة الشعر في السودان، وتأثره بالمجال الشعري في العالم العربي. كانت كل الدراسات القديمة تقول بأن تيار الشعر الحر جاء للسودان مع الشعراء الذين درسوا بمصر وتأثروا بهذا المنجز الشعري الجديد، من مثل جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن ثم الفيتوري ومحي الدين فارس، ومن المهم أن تتم الإشارة للمحاولات الشعرية التي حدثت قبل ذلك.

كتبت من قبل عن أن الشعر العربي والمهتمون به قد خسروا كثيرا لأنهم لم يعرفوا ويقرأوا شعر محمد المكي إبراهيم نتيجة حصر نشر شعره داخل السودان وعزوفه عن المشاركة في المهرجانات والمناسبات العامة، ويمكن أن تضيف لذلك كثير من الأصوات الشعرية المميزة، والمؤسف أكثر أنه حتى داخل السودان لم يعرف الجمهور العام أصوات شعرية مهمة لأنها تعيش خارج العاصمة، مثل محمد محي الدين وأحمد الغالي .

نحتاج أن نرجع لتاريخ تطور الفن والأدب في السودان، وسنكتشف فيه كثير الأشياء والوقائع والنماذج المهمة والمدهشة. فقد وجدت في أحد أعداد مجلة “النهضة 1931م1932م” مقالا في النقد السينمائي، ونقاشات حول الهوية والقومية.

ومن ديوان يوسف مصطفى التني المنشور عام 1955م ، يمكننا أن نقرأ ..ونندهش..

” وطنـي شَقـيـتَ بشِيبـه وشبابِهِ، زمـنـاً سقـاكَ السُمَّ مـن أكوابِهِ،

قـد أسلموكَ إلى الخراب ضحيّةً، والـيـومَ هل طربـوا لصـوت غُرابه؟

وطنـي تَنـازعَه الـتحـزُّبُ والهوى، هـذا يكـيـدُ له وذاك طغى به

ولقـد يُعـانـي مِن جَفـا أبنائهِ، فـوق الـذي عـانـاه مـن أَغْرابه

بـالأمس كـانـوا وحدةً فتفرّقتْ، فَسَطـا الـمُغـيرُ بظُفره وبنـابه

والـيـومَ هـم شِيَعٌ تُنـافس بعضَهـا، فـي رِقّهـا لـمسـوَّدٍ أو نـابه”

تعقيب:

شكرا لتعقيبات وإضافات وصلتني من أصدقاء كثيرين، حملت إشارات لنقاط أو أشخاص وأعمال أدبية غفلت عنها ولم أشر لها، ليس عمدا بالتأكيد، لكن لأني أكتب من خلال ذاكرة فردية تفتقد المراجع، وتقتصر معلوماتها فيما وصل إليها.

أشار الصديق الكاتب والناقد عصام ابوالقاسم لمجهودات وكتابات الدكتور هاشم ميرغني ودكتور مصطفى الصاوي، وملاحظات حول الكتابات عن المسرح السوداني وعدم شمولها لتجارب الولايات. كما نبهني لأن بعض روايات جمال محجوب قد تمت ترجمتها، والحقيقة أنني لم اطلع عليها.

وأشار الأستاذ عصام بابكر لرواية “لقاء عند الغروب” للكاتب أمين محمد زين والتي نشرت في الستينات، ووصفها بأنها من الروايات المهمة والمتميزة.

أنا ، كما ذكرت، لست ناقدا متخصصا، لكني أكتب مؤانسة، ومن خلال ذاكرة خربة، وفي مناخ غير موات للكتابة، لذلك أضع إشارات ونقاط تصلح منطلقا لحوارات وكتابات أكثر يقوم بها متخصصون.

 

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *