د. الطيب النقر

بسم الله الرحمن الرحيم

د. الطيب النقر

يوسف الغالي الشهير ب”كاجمه”، ودون إسراف في التفصيل، كانت شاحنته “اللوري بيدفورد”، المرتبطة بوجدان الشعب السوداني ارتباطاً وثيقا، هي سبب معاناة كل من: عصام سراج، محمد عبدالوهاب، خالد عبدالحليم، بشير سعيد، طارق كوكو، وعبده الغالي، شقيق يوسف”كاجمه” الأصغر، فشاحنة يوسف القديمة المتهالكة التي تم صنعها في عهد “ونستون تشرشل” رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق، كانت عصية أبية، لا تستجيب له في يسر، ولا تُسلِم إليه قيادها، إلا بعد طول جد وكد، وبذل مجهود طويل ثقيل، لقد وجد يوسف “كاجمه” ضالته في أولئك الصبية الصغار، الذين أخضعهم لأن يدفعوا شاحنته “الخربة” في غداة كل يوم، وظلت أياديهم تدفع مؤخرة ذلك “اللوري” لمدة قد تقصر أو تطول، ولكنها كانت كفيلة لأن تحظى أجسادهم بهذه القسوة التي تقدمها لهم إدارة مدرستهم في “حدب وايثار”، نظير تأخرهم الدائم عن طابور الصباح، هذه السياط التي أدمت ظهورهم لعدة سنوات، هي التي جعلتهم يمعنون مع ذويهم وأسرهم في نزال وقتال، حتى تمّ لهم ما أرداوا، وتحقق لهم ما ابتغوه، فهم بعد أن سلّط عليهم “لوري كاجمه” شآبيب البلاء، وألجأهم إلى هذا الفتور، الذي استأثر بنفوسهم الغضة، تجاه المدرسة التي كانت تسلخ جلودهم سلخا، أخذ كل فرد منهم، مجهودا مكدودا، ينفق بياض نهاره، وسواد ليله في حرفته التي ارتضاها لنفسه، حتى صعد كل واحد منهم وارتقى، فعصام سراج “الماركسي المتعجرف” مشى على طريق محفوف بالأخطار حتى صار من أشهر تجار “الصنف” في السودان بأسره، وبات قصره المنيف، المطل على “الأزرق الدفاق” الذي يقطن فيه، في أرقى أحياء العاصمة، قبلة لرموز المجتمع، الذين كان يتيح لهم” الماركسي المتعجرف” ما يطمحون إليه من نفوذ، ويحقق لهم ما يهفون له من سيطرة.

ومحمد عبدالوهاب، الذي أمضى مطلع شبابه، مجاهداً في أحراش الجنوب، ثم مدلساً يتماهى مع المدلسين، في تلك الحقبة التي استشرت فيها” سلعة” النفاق وراجت، حتى أضحت هذه “السلعة”، هي الخصلة التي تطمح إليها الشرائح الضعيفة الصلة بالدين، وتجاهد في سبيلها أعنف الجهاد وأشرسه، لقد اشتدت عناية محمد “الضخم” بالنساء، ولم يتعثر يوماً التاجر الفاحش الثراء في “زفرة أشواقه”، فهو ينسل من بيته في عتمة كل ليلة، ليطوف على زوجاته الأربعة متخفياً كاللص، فكل زوجة لا علم لها، ولا دراية بضرائرها،” فبرينسة” الفتى الذي اغتنى من “شعارات” تلك الحقبة الواهية، التي كانت تتخذ الدين مطية لتحقيق مراميها، ومن تضامنها الواسع، وتساهيلها التي كانت تقدمها لشيعتها في كرم حاتمي فياض، استطاع “برينسة” أن يكون من أشهر تجار الصمغ العربي، وأوكل أمر ترويجه وبيعه، لابن خالته خالد عبدالحليم الذي كان يطوف به أرجاء أوربا، خالد”الخمسيني” الرقيق النحيل، الذي أسرف على نفسه، واتخذ من غانيات أوربا اللائي تعجز عن أوصافهن القوافي والأسجاع، خليلات له، بدد عمره غير حافل بالزواج ولا مكترثاً له، بعد أن أخفق رغم حذقه وعلو كعبه، من أن يقنع “شادية” البضة الحسناء بالزواج منه، وهو في عنفوان شبابه، ففضّل أن يحتكر ما تبقى من عمره لنزواته، يغري نساء القارة العجوز، التي يقيم فيها أكثر من اقامته في السودان، ويغويهن ويستقصي أسرارهن، ليستخلص منها العبر والعظات، التي تجعل فكرة اقترانه بامرأة تنحط إلى الحضيض.

أما بشير سعيد، فحياته يسيرة سهلة، مضى فيها خلف نزعته الصوفية القديمة، التي جعلته يدمن قراءة المصادر والمصنفات التليدة، ويقضي أمسياته، في نحيب وبكاء، فبشير يبكي حينما يعانق المنشدين في حلقات الذكر، والمديح النبوي، التي تقام بانتظام في الزوايا، والأضرحة، ولكن انتحابه وعويله الدائب المستمر، لم يمنعه من أن يستغل أجواء الروحانيات والخشوع، فيخدع رواد تلك الحلقات خداعاً متصل، ويبيع لهم عطوره الفاسدة، التي لا يجد كد ولا عناء في تحصيلها، وبشير الصوفي المعذب، تنهمر دموعه في غزارة، عندما يتحدث عن تلك الرؤى التي تسعده، ويٌسمع أنينه ونشيجه من فلوات وأصقاع، وهو يردد تلك المقطوعات التي استبقاها في ذهنه بصوته الرخيم، هي والقصائد الصوفية الطويلة التي يفرغ لها، ويمنحها من عنايته، ووقته، وجهده، لأنها هي التي تجعله يظفر من الحياة بأوفى نصيب، وهي التي تجعل أقطاب الطرق الصوفيه، نفوسهم ملتاعة، وكلها شوق وتوق لرؤيته.

طارق كوكو، بعد أن توترت العلاقات بينه وبين مدير تلك الشركة الرائدة في خدمة الاتصالات، دنا من مجال لم يكن لديه أدنى فكرة عنه، فضلاَ عن الولوج فيه، فقد تعاورت نفسه تلك الذكريات القديمه، التي أمضاها في عزم، وطموح، وصبر، وجد، حتى يستخرج أوراقه الثبوتيه، ليسافر إلى الولايات المتحدة، ويبقى هناك بمعيه شقيقه الأكبر معاوية، ولكن الخدمة الوطنية الإلزامية في عهد الحقبة الملتحفة برداء الدين، وقفت عقبة كؤود دون سفره، لقد اكتشف طارق الذي عظمت حظوظه من المعرفة، والذي كان يسيغ اللغات ويجيدها، ويجد الراحة في تعلمها، والتحدث بها، أن هذه اللغات حتماً سوف تعينه في تجارته، التي أزمع أن ينخرط فيها، أخذ طارق في تأثيل تجارته تلك، ووثق أول انتصاراته، بالذهاب إلى “فرنسا” التي جلب منها شذاها الطيب، وعبيرها الفواح، لقد فتحت له تجارة “العطور” أبواباَ واسعة من الرزق، ولكنها جعلته يصدف عن الزواج، تماماَ مثل صديقه خالد عبدالحليم، الذي يقيم عنده في باريس، ويعيش معه في سعة، وينعمان بطيبات باريس ولياليها الآثمة.

أبو عبيده الغالي، أو عبده الغالي، كما يحلو للداته وأنداده أن ينادوه، انقضت أيامه التي صال فيها وجال، في ردهات المستطيل الأخضر، وحشد من الأندية الرياضية التي ارتدى شعارها، أموالاً طائلة، جعلته يحب الخمول و الكسل، ويأنس إلى الراحة والدعة، فالنشاط الوحيد الذي يزاوله عبده الغالي، لاعب فريق الهلال السابق، هو الذهاب في بداية كل شهر، لتحصيل فلوس الإيجار، من المنظمات والشركات التي تكتري منازلة الثمانية.

أما الفيزيائي وليد الطيب، الذي درس العلم، وتصرف فيه، ولم ينتفع بنتائجه، فقد ندم ندامة الكسعي، أن حياته المجدبة القاحلة، التي لم تبلغ ذروتها من الافتنان، والتناسق، والدقة، مثل رصفائه عصام ،محمد خالد، طارق، وعبده،، أصدقائه الذين أقصاهم عن حياته، وثار عليهم، لأنهم بغضوا العلم، وزهدوا فيه، لقد كان مخطئاً لما أبلى في جهاده، واستكثر من العلم، لقد أكتشف وليد العاطل عن العمل، أن نظرائه فعلاَ كانوا ينظرون إلى الغيب من ستر رقيق، ليته لم يظهر ضجره من دفع “لوري كاجمه”، ويستاء من تلك السياط الخمسة التي لم يقوى على الصبر عليها، لقد كان ساذجاً، ممعنا في السذاجة، حينما خضع لسلطان التحصيل الأكاديمي، وسلك طريقا مغايراً لطريق أصحابه، ليته بقى معهم يدحرج “لوري كاجمه”، ويمضي معهم حيث مضوا، لقد أزرى بأمانيه “لوري كاجمه” الذي لو علم أن في دفعه إياه، ما يغير مجرى حياته إلى الأفضل، لحرص على تحريكه ما وسعه الحرص.

أخت الشيطان

في عهد تلك الحقبة التي فشا فيها النفاق، والتشدق بقيم الدين، أقدمت تلك الحكومة في نسختها الثانية، على اكتراء العديد من المنازل في كافة مدن السودان، وأوكلت ذمامها لطائفة من” الأخوات” حتى يجعلن منها، وسطاً مشابهاً لحياة الصحابيات في عهود الإسلام الأولى، بعض هذه المنازل المؤجرة كانت فعلاً بيئة صالحة تضج بالعبادة، و تنتشر فيها مخافة الله عزّ وجل، والبعض الآخر كان صوراً رائعة للعبث والمجون.
رضوى التي لم تخلو جميع مراحل عمرها من عوج وفساد، أمست أميرة على طائفة من العابدات الزاهدات، وكانت بعد أن تظفر بمعزة الله لها، ورضاه عنها، لا تنسى أن تطوي حجابها، وتصعد ذلك الحائط المتصدع الذي يفصلها عن “جلال” عشيقها، فتمضي ساعات هانئة في مخدعه، ثم تعود لتغتسل وتوقظ رفيقاتها حتى يقرأن ما تيسر من الكتاب المحكم السبك في الهزيع الأخير من الليل، لقد كانت” رضوى” فعلاً مؤثرة للخير، ناشرة للإحسان.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.